حكم الوصية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: إن الموت نهاية كل حي لا ريب في ذلك ولا شك، حيث يقدم هادم اللذات على المرء في صحة أو مرض، ويقظة أو سبات فلا يرد.
ينقل الإنسان من مرحلة إلى مرحلة مثلما ينتقل في الدنيا من منزل إلى آخر. لقد قطع الموت وما بعده قلوب الخائفين، وألزمهم الصراط المستقيم، فاستعدوا للموت وأعدّوا له العدة. ومما يأنس بها الميت بعد موته ويعود أثرها عليه: الوصية، حيث يجري له عمله بما أوصى به بعد فراق الدنيا؛ امتثالاً لحديث النبي: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)1.
رجل موسر يملك ملايين الريالات ويعيش في بحبوحة من العيش وسط أموال تغدو وتروح، وأبناء تجاوز عددهم العشرة! ولما سقط طريح الفراش إثر نوبة مفاجئة أسرّ إلى من توسّم فيه الخير من معارفه وقال: أريد أن أبني مسجداً، وبعد بحث وعناء أخذ قرابة ثلاثة أسابيع وجد ضالته، وسارع بالخير إلى الرجل الموسر في المستشفى فإذا به يعلم أن الله -عز وجل- أنزل الشفاء عليه. فذهب إلى منزله زائراً ومهنئاً بزوال البأس،
ولما أراد أو يودع التاجر أبان له أنه وجد المسجد المطلوب فقال التاجر: ليس الآن فيما بعد يكون خيراً، ومدّ في إخراج الحروف بما تعني من طول مدة! وبعد سنتين عاود المرض التاجر، وأدخل المستشفى، وكرر النية وصرّح لنفس الرجل أنه يريد بناء مسجد! ولكن الأيام تسارعت به إلى الآخرة، والرجل لا يزال يبحث عن مسجد، فإذا به يسمع وفاة التاجر! وعندها قال: بعد أسبوعين أو ثلاثة أنقل هذه الرغبة لأبنائه؛ لعلهم أن يقوموا بتنفيذ رغبة والدهم، ولكنه وجد جفاء وغلظة، وعدم تقبل لأمر بناء المسجد من الأبناء العشرة! والطامة الكبرى التي أهمّت الرجل أنه علم أن هذا الرجل الذي يملك ملايين الريالات لم يوص ولا بأضحية، أو حجة من هذا المال الوفير، والأبناء بخلوا أو أحجموا عن بناء المسجد من مال والدهم الذي جمعه همّاً وغمّاً في سنوات عمره الطويلة وتركه لهم عليه غرمه ولهم غنمه!.
أما الآخر وكان يملك مثل سابقه من الأموال والدور والقصور، ولم يوصِ بشيء من ماله الوفير، ولما توفي كان لهم قريب يحب هذا التاجر؛ لمعروف أسداه إليه، فتسبب في جعل أضحية له في العام الأول، ولما أتى العام الثاني تشاغل أبناؤه عن إعطائه مبلغاً يسيراً هو قيمة أضحية عن والدهم، ولكنّهم في النهاية دفعوا له خمسمائة ريال على مضض وطول إلحاح ومتابعة! ولما أتت السنة الثالثة قال له أكبرهم ومن يظن أنه أبرّهم بأبيهم! قال بصوت مرتفع: يكفي ضحينا له مرتين أو ثلاثاً.
وهكذا ذهبت الملايين التي جمعها، بخل عليه أبناؤه بصدقة، وبخل هو على نفسه بوصية يوصي بها لأعمال البر والخير! أليس هو أحق بنفع المال الذي جمعه وكدّ وتعب في تنميته؟! …
أما الموفّقون فإنهم أوقفوا في حياتهم وجعلوا وصية ملزمة بعد مماتهم! كم منا من يموت ولا توجد له وصية تبرّي ذمته من حقوق الناس أولاً ثم تجعل له نصيباً من الخير يجري له بعد موته خاصة مع ما أفاض الله عز وجل علينا من أموال وبسطة في الرزق. كم منا من يموت ولم يعهد بوصية لأبنائه فيها نصيحة وتنبيه، وإن كان لديه أطفال قصّر عهد بهم لمن يرعاهم ممن يأنس فيه المقدرة والرعاية من أقاربه ومعارفه بدلاً من أن يكونوا عرضة للشتات أو للمطامع.
ولأهل الخوف من كتابة الوصية: فإنها لا تقدّم في الأجل، ولا تؤخر في الموعد، وهنالك من أوصى منذ ثلاثين سنة أو أكثر، ولكل أجل كتاب. فالمبادرة المبادرة بهذا الخير الذي دلّ عليه النبي ﷺ ؛ كما في حديث عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)2.
وقال بكر المزني: “إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا ويصبح من أهل الآخرة”3.
وأوجه البر كثيرة؛ من فقراء الأقارب غير الوارثين، وعمارة المساجد وخدمتها، وبناء المدارس لتحفيظ القرآن، وقضاء ديون المعسرين وتعليم القرآن وسقي الماء، وطبع الكتب المفيدة، والوصية بالحج والأضاحي عن نفسه وغيره. وهذا الباب بفضل الله واسع، ووجوه البر فيه لا تنحصر4.
فيا أيها الناس: لقد شرع الله للإنسان الوصية في حال مرضه، وقبل وفاته، فقد جاء النص على مشروعيتها في كتاب الله، وفي سنة رسوله، وأجمع على ذلك علماء الأمة؛ يقول الله -تعالى-: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سورة البقرة(181). وقال جل وعلا: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ سورة المائدة (106). وقال تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ سورة النساء(11).
فتجب الوصية -عباد الله- على من كان له عند غيره أمانات أو أموالاً أو ما أشبه ذلك، أو عليه لغيره من الأمانات، والديون، والحقوق.
وقد تكون الوصية مستحبة وذلك بأن يوصي بشيء من ماله يصرف في سبل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته; فقد أذن له الشارع بالتصرف عند الموت بثلث المال, وهذا من لطف الله بعباده; لتكثير الأعمال الصالحة لهم.
وتكون الوصية أيضاً محرمة بما لو أوصى على جهة معصية؛ كالوصية للكنائس ومعابد الكفرة والمشركين, وكالوصية لعمارة الأضرحة وإسراجها أو لسدنتها, سواء كان الموصي مسلما أو كافرا، بل إنها لا تصح..
وتكون الوصية أيضاً محرمة بما إذا كان أوصى بطباعة الكتب المنسوخة, كالتوارة والإنجيل, أو طباعة الكتب المنحرفة; ككتب الزندقة والإلحاد- والعياذ بالله-.
وتكون الوصية كذلك محرمة إذا كان فيها إضرار ببعض الورثة; لقوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ. قال ابن عباس: “الإضرار في الوصية من الكبائر”5، قال الشوكاني -رحمه الله-: “قوله: غَيْرَ مُضَارٍّ أي يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار, كأن يقر بشيء ليس عليه, أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الضرار بالورثة, أو يوصي لوارث مطلقاً أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجز الورثة, وهذا القيد أعني قوله: غَيْرَ مُضَارٍّ راجع إلى الوصية والدين المذكورين; فهو قيد لها, فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته, فهو باطل مردود, لا ينفذ منه شيء, لا الثلث ولا دونه”. قال القرطبي: “وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز”6.
“والإضرار في الوصية يقع على وجوه: منها أن يوصي بأكثر من الثلث، أو يقر بكل ماله أو بعضه لأجنبي، أو يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة، أو يقر بأن الدين الذي كان له على فلان استوفاه منه، أو يبيع شيئا بثمن رخيص، ويشتري شيئا بثمن غال كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة، أو يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص الورثة، فهذا هو الإضرار في الوصية”7.
وتكون الوصية مستحبة في حق من له مال كثير ووارثه غير محتاج؛ لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ. والخير هو المال الكثير عرفا; وعليه فإنها تكون مكروهة في حق من له مال قليل ووارثه محتاج; لأنه يكون بذلك قد عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب, ولقوله ﷺ لسعد بن أبي وقاص: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)8. وقال الشعبي: “ما من مال أعظم أجرا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس”9.
وتكون الوصية مستحبة كذلك إذا كانت بالثلث فأقل; قال علي -رضي الله عنه-: “لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصى بالثلث فلم يترك”. وقال الحسن البصري -رضي الله عنه-: “يوصي بالسدس أو الخمس أو الربع”. وقال الشعبي: “إنما كانوا يوصون بالخمس أو الربع”10. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع; فإنّ رسول الله ﷺ قال: (الثلث, والثلث كثير)11.
وتكون الوصية جائزة في حق من كان له مال وليس له وارث، فله أن يوصي بماله كله; لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)12. وهنا لا وارث له أصلاً، قال العلامة ابن القيم: “إذا أراد المريض الذي لا وارث له أن يوصى بجميع أمواله في أبواب البر فهل له ذلك على قولين أصحهما أنه يملك ذلك لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث وكان له ورثة فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله”13. أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: ومن أحكام الوصية أنه يجوز للموصي الرجوع فيها ونقضها أو الرجوع في بعضها لقول عمر: “يغير الرجل ما شاء في وصيته”. وهذا متفق عليه بين أهل العلم, فإذا قال: رجعت في وصيتي, أو: أبطلتها .. ونحو ذلك; بطلت..
ومن أحكام الوصية أنه يخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية كالزكاة والحج والنذور والكفارات أولاً, وإن لم يوص به; لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. ولقول علي -رضي الله عنه-: “قضى رسول الله ﷺ بالدين قبل الوصية”14. فدل على تقديم الدين على الوصية، وفي”الصحيح”: (اقضوا الله; فالله أحق بالوفاء)15. فيبدأ بالدين, ثم الوصية, ثم الإرث; بالإجماع.
والحكمة في تقديم ذكر الوصية على الدين في الآية الكريمة, وإن كانت تتأخر عنه في التنفيذ: أنها لما أشبهت الميراث في كونها بلا عوض; كان في إخراجها مشقة على الوارث, فقدمت في الذكر, حثا على إخراجها, واهتماما بها, وجيء بكلمة (أو) التي للتسوية, فيستويان في الاهتمام, وإن كان الدين مقدما عليها.
ومن هنا; فإن أمر الوصية مهم, حيث نوه الله بشأنها في كتابه الكريم, وقدمها فيالذكر على غيرها; اهتماما بها, وحثا على تنفيذها, ما دامت تتمشى على الوجه المشروع, وقد توعد الله من تساهل بشأنها، أو غيّر فيها وبدل من غير مسوغ شرعي, فقال سبحانه: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. قال الشوكاني في تفسيره: “والتبديل التغيير, وهذا وعيد لمن غيّر الوصية المطابقة للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة, وأنه يبوء بالإثم, وليس على الموصي من ذلك شيء, فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به”16.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 رواه مسلم.
2 رواه البخاري ومسلم.
3 جامع العلوم والحكم(384). لابن رجب. الناشر: دار المعرفة – بيروت. الطبعة الأولى (1408هـ).
4 راجع: مطوية بعنوان: الوصية الوصية، لعبد الملك القاسم.. بتصرف يسير.
5 تفسير القرآن العظيم(1/611).
6 فتح القدير (1/653) للشوكاني.
7 تفسير اللباب، لابن عادل.
8 رواه البخاري.
9 إصلاح المال(118).
10 معالم التنزيل(1/192). للبغوي.
11 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج(11/82). للنووي. الناشر: دار إحياء التراث العربي- بيروت. الطبعة الثانية (1392هـ).
12 سبق تخريجه.
13 إعلام الموقعين عن رب العالمين(4/39 – 40). الناشر: دار الجيل – بيروت(1973). تحقيق: طه عبد الرءوف سعد.
14 رواه الترمذي وأحمد وغيره.
15 رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
16 يراجع: الملخص الفقهي، للفوزان، صـ(498) وما بعدها..