المعاشرة الزوجية

 

 

 

 

المعاشرة الزوجية

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وبين لنا الحلال والحرام، ومتعنا بنعمه العظام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الكرام.. أما بعد:

أيها المسلمون:

إن الحياة الزوجية من نعم الله التي أنعم بها على الإنسان، ذلك أن الله – تبارك وتعالى – لما خلق آدم – عليه السلام – جعل له من نفسه زوجاً يسكن إليها ويأوي إلى جوارها ويأنس بها، وهذا من تمام النعم وكمالها، ومن راحة الحياة وسعادتها كما قال – تعالى-: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) سورة الروم.

ولكن بعضاً من الناس لا يعرف أحكام هذه العشرة وضوابطها، وأهدافها التي أرادها الله – تعالى-، فتكدرت حياتهم، وتنغص عيشهم، وانقلب السرور حزناً، والسكينة وبالاً وجحيماً، فأصبحت تلك الأسر متنافرة متشاكسة، لا يجمعها إلا المبيت أو الأكل والشرب، أما العلاقات فقد تشتت، وأما الرأفة والمودة والرحمة فقد عدمت، وأما مراعاة الشرع في تلك المعاشرة فقد تركت جانباً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الناس:

إن المعاشرة الزوجية التي أرادها الله – تبارك وتعالى – هي ما ذكره في كتابه العظيم بقوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) سورة النساء.

هذه هي القاعدة الشرعية في المعاشرة، وهذا هو المفهوم الصحيح لمعنى المعاشرة، وهي المعاشرة بالمعروف، والنظر إلى المحاسن، والتغاضي عن المساوئ في كثير من الأحيان، فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.

عباد الله:

لقد رسم لنا رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه – منهجاً قويماً في كل شيء، ومن ذلك (العشرة الزوجية)، فهي علاقة قائمة على المحبة والصدق والأمانة، تبدأ منذ بداية الطريق حيث اختيار الزوجة واختيار الزوج، حيث وجه النبي – صلى الله عليه وسلم -، وبين أهمية المرأة الصالحة ذات الخلق والدين بقوله: (تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)1، وقال أيضاً: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).2

وكذلك حث على قبول صاحب الدين، وبين أن في رفضه فساد وفتنة فقال – صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).3

وفي حديث عائشة عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (تخيَّروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم)4، وذلك من أجل بقاء كيان الأسرة واستمرارها؛ لأن تهدم الأسرة يعني ضياعها، وضياع الأسرة يعني انهدام المجتمع بأسره، فلذا جاء هذا الشرع المطهر بوسائل عديدة تحفظ للأسرة استقرارها، وتحفظ أركانها، فمن أجل ذلك كانت النظرة للدين، وكان الحث والتوجيه بتزويج المتدين، والترغيب بنكاح المتدينة؛ وذلك أن الذي لا يحسن العلاقة بربه لا يحسن علاقته مع غيره، قال الحسن البصري أحد كبار التابعين – رحمه الله تعالى – حين سأله رجل قال: بخطب ابنتي الكثيرون فمن أزوجها؟ قال: “زوجها ممن يتقي الله، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها”.

فالكفاءة بالدين من أقوى الاعتبارات في الشرع؛ لأن غير المتدين لا يكون كفؤاً للمتدين، فالدين إذاً مهم جداً في بقاء الأسرة متماسكة الأركان، وأما قضايا المجاملة في الإنكاح والنكاح فهذه أقنعة زائفة تسقط من أول عارض؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وأقصد بالمتدين: المحافظ على الصلاة سواء الرجل أو المرأة؛ لأن تركها كليةً كفر – والعياذ بالله -.

وأما ما يفعله بعض الناس أن فلانة لفلان – مثلاً -، أو أن فلان لفلانة، ثم بعد ذلك يكون الزواج دون اختيار من الطرفين، ودون رغبة أحدهما بالآخر، أو يكون الزواج على أساس القرابة دون النظر إلى الدين والخلق، ويرفض غير القريب ولو كان ذا دين وخلق؛ فهذه تصرفاتٍ لا يقرها الشرع؛ لأنها خاطئة، والعشرة الزوجية التي تبنى على هذه الأسس الواهية مصيرها إلى الفشل، والشرع الحنيف هدفه بقاء الأسرة واستقرارها، فرسم ضوابط لنجاح هذه العلاقة، ونفى ما عداها تصريحاً أو تلميحاً؛ لأن اعتبار الدين مقدم على اعتبار المجاملة واعتبار القرابة إذا لم يكن القريب أو الصديق متديناً.

أيها المسلمون:

إن من مفهوم المعاشرة الزوجية أن يعرف كل من الزوجين حق الآخر، وأن يؤدي ذلك الحق على وجهه الشرعي، وأن يبتغي بذلك وجه الله – تعالى-.

فمتى قام كل من الزوجين بما عليه التأمت الزوجية، وتم لهما حياة سعيدة طيبة، وحصلت الراحة، وحلت البركة، ونشأت العائلة نشأة حميدة، ومتى لم يقم كل منهما بالحق الذي عليه تكدرت الحياة، وتنغصت اللذات، وطال الخصام، وتعذر الوئام قال – صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع على الناس ومسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).5

ومن حقوق الزوجة على زوجها:

1- النفقة: وهي ما يصرفه الزوج على زوجته وأولاده من طعام، ومسكن، وكسوة، ونفقة الزوجة هي ما يلزم للوفاء بمعيشتها بحسب ما هو متعارف بين الناس، وقد ثبت وجوبها بالكتاب والسنة وذلك في قوله – تعالى-: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ سورة البقرة (233)، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ سورة الطلاق (6)، ويقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)6، وتستحق المرأة هذه النفقة متى ما كان عقد الزواج صحيحاً، وكانت صالحة للمباشرة الزوجية، ومكنت الزوج من ذلك سواء كانت مسلمة، أو كتابية، غنية، أو فقيرة.

2- عدم الإضرار بالزوجة: فمن حقها أن لا يؤذيها بقول أو فعل أو خلق فالإضرار بها غير جائز فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ سورة البقرة (231)، وإذا خالف الزوج أدب الإسلام وآذاها كان من حقها أن ترفع أمرها إلى القضاء لينصفها ويزجره عما فعل، بل يرى بعض الفقهاء أن من حقها أن تطلب التفريق للضرر الواقع عليها، وللقاضي أن يحكم بطلاقها جبراً على الزوج طلاقاً بائناً.

وأما حقوق الزوج على زوجته فمنها:

1- الطاعة بالمعروف في غير معصية الله: وذلك حتى تقوم العلاقة الأسرية على أساس متين من النظام والانضباط يحترم كل طرف فيه التزاماته التي يقتضيها هذا العقد.

2- ولاية التأديب: فمن أجل الحفاظ على الأسرة جعل الإسلام رئاسة هذه المؤسسة في يد الزوج، وذلك كما سبق مقابل المسؤوليات التي ألقاها الإسلام على عاتقه تجاه هذه المؤسسة، وقد نشأ عن هذا الحق أن الزوج إذا تمردت عليه الزوجة وامتنعت من أداء حقوقه عليها كزوج بأن لم تمكنه من المعاشرة كان للزوج تأديبها لهذا السبب، وهو تأديب يمر بثلاثة مراحل:

المرحلة الأولى الموعظة: بأن يذكرها ما أوجب الله عليها من حقوق تجاه زوجها بموجب هذا العقد.

المرحلة الثانية الهجران: بأن يعتزلها في المضجع فلا يبيت معها ويعرض عنها.

المرحلة الثالثة الضرب الخفيف غير المبرح: ويستحب أن لا يمارس هذا الحل الأخير؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم – في الذين يضربون زوجاتهم: (ليس أولئك خياركم)7، ومع ذلك فهو ضرب بالسواك – وهو عود من جذور بعض الأشجار لا تأثير في البدن بالضرب به – ونحوه، والقصد منه معنوي بالأساس وعلى هذا دل قوله – تعالى-: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا سورة النساء (34).

هذا معنى المعاشرة الزوجية التي أراد الله – تعالى- أن تكون عليها الأسرة المسلمة، فهي ليست عشرة متاع زائل، أو شهوة عابرة تنقضي بانقضاء وقتها، إنما هي حياة طيبة مملوءة بالرأفة والرحمة والشورى، والهدف من كل ذلك هو إرضاء الله – تبارك وتعالى -.

ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون: إن الحياة الأسرية هي نواة الحياة الاجتماعية في كل الأمم، فإذا ما قامت الحياة الأسرية على أساس متين في علاقات بعض أفرادها ببعض ابتداء من الزوجين اللذين يكون الزواج سكناً لهما وراحة وطمأنينة، بحيث يختار كل منهما صاحبه على أساس الدين الذي لا تستقيم الحياة الزوجية، ولا يحصل السكن لكل من الزوجين وثقة كل منهما بصاحبه إلا به، وقد يكون في بعض الأديان الباطلة شيء من الوصايا والآداب الزوجية، ولكنها لا تقوم على تقوى الله، والخوف منه، والرغبة في ثوابه، ولا تكون بذلك مطبقة في الواقع، وبخاصة عندما يكون الهدف من الزواج لكل من الزوجين المتعة المادية فحسب، أو الكسب المادي، كطمع كل منهما في مال الآخر، ونحو ذلك – أي عندما تطغى الأنانية والأثرة -، وهذا ما هو حاصل اليوم في خضم الحضارة المادية، لذلك تجد الصراع والشقاق بين الأزواج، وكثرة الطلاق، وتشرد الأولاد، وانتشار الأمراض النفسية، وتعاطي الكحول والمخدرات والإدمان عليها، وفقد كل من الزوجين ثقته في الآخر، وانبنى على ذلك ما لا يحصى من الآثار الخطيرة من ذلك: العزوف عن الزواج للتخلص من الارتباطات القانونية وتحمل مشقات تربية الأولاد -مادياً -، وأصبح الآدميون يعيشون كما تعيش البهائم.

بل إن الزوج يرى امرأته وهي ترافق غيره، والمرأة ترى زوجها وهو يرافق غيرها، وقد يتآمر أحد الزوجين وعشيقه على الآخر، فيقتلانه ليتخلصا منه، ويعيشا عيشة الحيوان برهة من الزمن، ثم يستبدل كل منهما بقرينه قريناً آخر.

وقد تنجب هذه المرأة أولاداً فينسبون إلى زوجها وهو يعلم أنهم ليسوا بأولاده، كما لا توجد ثقة عند الأبناء بأن هذا هو أبوهم.

هذه هي حياة الأمم التي تعيش بلا مبادئ، ولا أخلاق، ولا وحي، ولا منهج صحيح، إنها حياة الضياع والتيه، ونهايتها إلى شقاء ونكد، نعوذ بالله من ذلك.

أما حياة الأسرة المسلمة فهي تقوم على الحب والمودة، والرحمة والتشاور، والخوف من الله – تبارك وتعالى – من الخيانة الزوجية، أو التهاون في الحقوق الأسرية، وكل الهدف من ذلك هو إيجاد نسيج اجتماعي متوحد في نظامه وعبادته وأخلاقه، والهدف الأسمى من كل ذلك هو بلوغ رضوان الله، والفوز بالدار الآخرة، كما قال – تعالى- في وصف أهل الجنة: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) سورة الطور، أي ألحقنا بهم ذريتهم الصالحة في الجنة، هذه الذرية الطيبة ناتجة عن أسرة مؤمنة تعرف ما لها وما عليها، يكون مرد خلافها وإصلاح أمرها كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -.

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أصلح لنا أسرنا وأزواجنا، وذرياتنا واغفر لآبائنا وأمهاتنا ومن له حق علينا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.8



1 رواه البخاري ومسلم.

2 رواه مسلم.

3 رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني.

4 رواه ابن ماجه والحاكم، وحسنه الألباني.

5 متفق عليه.

6 رواه مسلم.

7 رواه  أبو داود والحاكم، وصححه الذهبي والألباني.

8 المراجع: كتاب الأسرة، وسباق العقول، والضياء اللامع، وموقع لكِ على الانترنت.