تشويش

التشويش1

التشويش

 

بنيت المساجد لعبادة الله -تعالى- وتحقيق أهداف ومقاصد عظيمة منها تآلف قلوب المسلين, وخلق روح الجسد الواحد بينهم باجتماعهم بمكان واحد، وهيئة واحدة يؤدون عبادة واحدة..

غير أن ما نراه اليوم من مخالفة كثير من الناس لهذه الأهداف العالية لأمر محزن للقلوب جداً، فإنا نرى ونسمع ونشاهد ارتفاع الأصوات في المساجد والتشويش1 على المصلين، بالبدع والمخالفات التي أحدثت في عصرنا… وقد قال الله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (سورة النــور: 36)

وقال الإمام ابن الحاج في رفع الصوت في المسجد أثناء خطبة الجمعة وغيرها: "ينبغي أن يمنع من يرفع صوته في المسجد في حال الخطبة وغيرها؛ لأن رفع الصوت في المسجد بدعة… "

وقال: "ينبغي أن ينهى الذاكرون جماعة في المسجد قبل الصلاة أو بعدها أو في غيرهما من الأوقات؛ لأنه مما يشوش به، وفي الحديث (( لا ضرر ولا ضرار ))2 فأي شيء كان فيه تشويش منع . ذكره القاسمي في (إصلاح المساجد).

وقد اختلفت صور التشويش في المساجد حتى اتخذت أشكالاً عدة منها:

1- إقامة حلقات الكلام والثرثرة في أمور الدنيا وما لا نفع فيه، وإنما هو مجرد القيل والقال، وذكر الناس وغيبتهم، وهذا الأمر على ما فيه من مفسدة إضاعة الوقت قد اشتمل على محرمات أخرى منها الغيبة، والتشويش على العبّاد والمصلين في المسجد ومن ثم الخروج عن أهداف المساجد.

2- وربما اجتمع إلى ذلك الاتفاق على عقد بيع، أو جرد حسابات العمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك)) رواه الترمذي والنسائي وابن خزيمة والحاكم.

والأدهى من ذلك أنه قد يتطور الأمر إلى عقد صفقات أكل أموال الناس بالباطل, أو الاتفاق على البيع المحرم أصلاً في بيوت الله.. والله المستعان.

3- إنشاد الضالة في المسجد: والضالة هي أي شيء يضيعه أو يضله الإنسان، سواء كان مالاً أو كان متاعاً بل حتى الحذاء والعمامة ونحوهما وما في حكمها، لا يجوز إنشادها في المسجد… لأن المساجد لم تبن لهذا ..وإنما تنشد هذه في أماكن كالأسواق والمحلات العامة، وأماكن الاجتماعات غير المساجد.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة السابق:(( وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك ))

4- ومن التشويش ما يفعله بعض أهل الابتداع من إلقاء القصائد الغزلية، والموشحات الغنائية، أو إقامة الحفلات والأسمار في بيوت الله في بعض المواسم والمناسبات عندهم.. كما تفعله بعض فرق الضلالة، الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وجعلوا بيوت الله صالات للأفراح، وأماكن للاحتفالات …

 

لكن يبقى هناك سؤال مهم وهو هل الكلام في المسجد يمنع مطلقاً بقطع النظر عن كونه في أمور الدنيا أو الآخرة أوكونه مباحاً أو محرماً أم أن الأمر فيه استثناء؟

فنقول: قال الحافظ في الفتح عند تبويب البخاري : ( بَاب رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ ) :" أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ , فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا سَوَاء كَانَ فِي الْعِلْمِ أَمْ فِي غَيْرِهِ , وَفَرَّقَ غَيْره بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَرَضٍ دِينِيٍّ أَوْ نَفْع دُنْيَوِيّ وَبَيْنَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ , وَسَاق الْبُخَارِيّ فِي الْبَابِ حَدِيث عُمَرَ الدَّالّ عَلَى الْمَنْعِ , وَحَدِيث كَعْب الدَّالّ عَلَى عَدَمِهِ , إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَنْعَ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَعَدَمه فِيمَا تُلْجِئُ الضَّرُورَة إِلَيْهِ ….3

وعليه فطالما الكلام لم يزل في دائرة المباح فإنه يجوز كما قال النووي أنه: " يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد, وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات وإن حصل ما فيه ضحك ونحوه ما دام مباحا،ً لحديث جابر بن سمرة: ( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح ؛ حتى تطلع الشمس , فإذا طلعت قام , قال: وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية , فيضحكون ويبتسم )) رواه مسلم" بل في رواية للترمذي أن الصحابة كانوا يتناشدون الشعر

وأما مالك رحمه الله فقد استدل بحديث أبي هريرة وعائشة وغيرهما رضي الله عنهم: إن المصلي يناجي ربه فلينظر بم يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن . ‌ 4

وقال في المنتقى شرح الموطأ: "لَا يُنَاجِيَهُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ مَكْرُوهٍ مِنْ رَفْعِ صَوْتِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إيذَاءَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَمَنْعًا مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ وَتَفْرِيغِ السِّرِّ لَهَا وَتَأَمُّلِ مَا يُنَاجِي بِهِ رَبَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِذَا كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَمْنُوعًا حِينَئِذٍ لإذاية الْمُصَلِّينَ فَبِأَنْ يُمْنَعَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا بِالْمَسَاجِدِ واطراحا لِتَوْقِيرِهَا وَتَنْزِيهِهَا الْوَاجِبِ وَإِفْرَادِهَا لِمَا بُنِيَتْ لَهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ الْعَظِيمُ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا"

ولذلك فيمكنك أخي مما سبق أن تلاحظ أن قول من ذهب إلى التفصيل المشار إليه بكلام الحافظ رحمه الله فيه جمع للأدلة كلها، لا سيما وأن الأصل في الكلام الإباحة.لكن يظل القول بأن رفع الأصوات في المسجد ممنوع شرعاً، أولى من غيره، وعليه يكون رفع الصوت في المسجد على النحو التالي:

1- رفع الصوت بالقراءة والذكر: من الأمور الجائزة، بل من المستحب شرعاً إن كان الرافع له إمام المسجد، إن لم يؤد ذلك إلى التجاهر بين الأئمة من مسجد إلى آخر، أو التجاهر بين مأموم ومأموم.

2- رفع الصوت نتيجة الخصومات بين المسلمين فهذا من الأمور الممنوعة .

3- كذلك البيع والتجارة وإنشاد الضالة، وكذا الشعر فيما لا مصلحة شرعية فيه.

4- الحديث في المسجد مع رفع الأصوات بشدة مما يُذهب هيبة المسجد قداسته، لا يجوز. لأنها أماكن أذن الله أن ترفع وتعظم، لا أن تحاكى فيها هيشات الأسواق.

5- ما يفعله بعض الجهلة من الأذكار الجماعية المبتدعة وإقامة الرقص أو الغناء في المساجد محرم، لا يشك في حرمته عاقل.

6- الكلام لأمر هام أو لحاجة ماسة في المسجد أو الكلام في أمور الدنيا بأصوات معتدلة، بحيث لا يتأذى منه مصلّ ولا قارئ، لا حرج فيه لما سبق من حديث جابر بن سمرة…

والله أعلم .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..



1 – قال في اللسان 6/310 وأما التشويش فقال أبو منصور إنه لا أصل له في العربية وإنه من كلام المولدين وأصله التهويش وهو التخليط وقال الجوهري في ترجمة شيش التشويش التخليط..

2– رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني وغيرهما, وصححه الألباني.

3 – الفتح بتصرف.

4 – انظر حديث رقم: 1951 في صحيح الجامع. تحقيق الألباني ‌