انتهاك حرمات الله

 

 

 

انتهاك حرمات الله

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: فقد خلق الله الخلق ليفردوه بالعبادة:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سورة الذاريات(56)، قال مجاهد: “إلا لآمرهم وأنهاهم”1، وقد أمرنا الله بتعظيم حرماته، ونهانا عن ارتكاب محارمه، وتجاوز حدوده، ومخالفة أوامره؛ يقول الله –تعالى-: وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ سورة الحـج(30)؛ أي “ومن يجتنب معاصيه ومحارمه، ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه”2 فإن ذلك خير له عند ربه.

أيها الناس: لقد حذرنا الله -تبارك وتعالى- من انتهاك حرماته، والتعدي عليها، وجعل ذلك من أكبر الكبائر؛ قال تعالى: وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ سورة النساء(14)، وقال سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا سورة البقرة(187)، وقال سبحانه: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ سورة الطلاق(1)؛ “فكل من أصاب شيئاً من محارم الله، فقد أصاب حدوده، وركبها، وتعداها”3، وقد حذر النبي  من انتهاك حرمات الله أشد التحذير؛ فعن ثوبان-رضي الله عنه- عن النبي   أنه قال: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله-عز وجل- هباء منثوراً)، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟!، قال: (أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)4.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله   قال: (أتدرون ما المفلس؟) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: (إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار!)5

أيها الناس: ومما جاء في السنة عن رسول الله في التحذير من انتهاك حرمات الله؛ ما جاء من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع، يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجْه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله –تعالى-، والأبواب المفتحة محارم الله -تعالى-، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله -عز وجل-، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم)6،

“ففي هذا المثل الذي ضربه النبي   أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه، ونهى عن مجاوزة حدوده، وإن من ارتكب شيئاً من المحرمات فقد تعدى حدوده”7.

وفي الحديث عن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله   قال: (إن الله –تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)8.

فمن بات منتهكاً لحرمات فإنه قد جعل الله أهون الناظرين إليه، ولم يراقب الله.. ومن المصيبة أن يقع الإنسان في الحرام ثم يجاهر به الناس ويعلمهم بما صنع، زيادة في الفحشاء والمنكر، وهذا من شر الخلق عياذا بالله؛ فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله   يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)9؛ فمن استخف بما حرم الله عليه فالله أشد عقوبة له وأشد تنكيلاً، بل إن انتهاك حرمات الله والتساهل في ذلك سبب رئيس في ذل الأمة وهوانها على الله وعلى خلقه؛ فعن جبير بن نفير قال: “لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام؟ قال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى”10، وقال يحيي بن معاذ الرازي: “عجبت من ذي عقل يقول في دعائه: اللهم لا تشمت بي الأعداء ثم هو يشمت بنفسه كل عدو له، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يعصي الله فيُشمت به في القيامة”. وقال ذو النون: “من خان الله في السر هتك ستره في العلانية”11.

قال ابن القيم -رحمه الله-: “لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة الله، فلله الفضلة من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله، وسواه المقدم في ذلك؛ لأنه المهم عنده يستخف بنظر الله إليه، واطلاعه عليه، وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه،ويستخفي من الناس ولا يستخفي من الله، ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما عنده وما يقدر عليه، وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة، وقد أفرغ له قلبه وجوارحه، وقدمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حق ربه إن ساعد القدر قام قياماً لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحي أن يواجه به مخلوق مثله، فهل قدَّر الله حق قدره مَن هذا وصفه؟ وهل قدَّره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟؟!!”12.

وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: “بقدر إجلالكم لله -عز وجل- يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم، ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق، وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته، ولقد رأيت من كان يراقب الله -عز وجل- في صبوته -مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم- فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير”13، والله المستعان.

نسأل الله برحمته أن يعظم دينه في قلوبنا وأن يجعله أحب إلينا من كل شيء، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة دارنا، اللهم يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.. عباد الله توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن البعض من الناس يفهم أن حرمات الله بعض منهياته، والأمر أعم من ذلك؛ لأن الحرمات “هي جمع حرمة، وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق، والأشخاص، والأزمنة، والأماكن”14، وبهذا يتبين لك -أيها المسلم- أن حرمات الله جميع ما حرم الله تجاوزه من حقوق الخالق، وحقوق المخلوقين من أشخاص، وأزمنة، وأمكنة، وما أشبه ذلك.

نعم -يا عباد الله: إن الله تعالى عظم حرمة كتابه، وجعله كلاماً لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ سورة فصلت(42)؛ فمن امتهن القرآن أو استهزأ بشيء من فإنه على خطر عظيم؛ يقول القاضي عياض –رحمه الله-: “من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفا منه، أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك؛ فهو كافر عند أهل العلم بإجماع”15.

كما أن الله حرم انتهاك حرمة بعض الأشخاص، وفي مقدمتهم: أنبياء الله ورسله الكرام؛ثم أصحابهم وآلهم، وأعظم الآل والأصحاب أصحاب نبينا محمد  . فمن تعرض لواحد منهم بالسب تصريحاً أو تلميحاً؛ فإن يكون بذلك على شفا حفرة من النار، فقد أهدر النبي   دم امرأة كانت تسبه، وتقع فيه؛ فعن ابن عباس –رضي الله عنه- أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي   وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي   وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي فجمع الناس، فقال: (أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام)، قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي  ، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها؛ كانت تشتمك، وتقع فيك،فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي  : (ألا اشهدوا أن دمها هدر)16.

عباد الله: وقد حرم الله التعدي على كل نفس معصومة الدم والمال؛ فعن عبد الله بن عمر: قال رسول الله   في حجة الوداع: (ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة)، قالوا: ألا شهرنا هذا، قال: (ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة)، قالوا: ألا بلدنا هذا، قال: (ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة)، قالوا: ألا يومنا هذا، قال: (فإن الله -تبارك وتعالى- قد حرم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم إلا بحقها، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا؛ ألا هل بلغت) ثلاثاً، كل ذلك يجيبونه ألا نعم، قال: (ويحكم أو ويلكم لا تَرجعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)17

ومن حرمات الله في الأمكنة التي حرم الله انتهاكها: بلد الله الحرام مكة-شرفها الله وحماها-، فإن الله قد توعد من ينوي فيها الإلحاد بأن يذقه عذاباً أليماً؛ قال تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ سورة الحـج(25)؛ قال عمر -رضي الله عنه-: “يا أهل مكة: اتقوا الله في حرمكم هذا، أتدرون من كان ساكن حرمكم هذا من قبلكم؟ كان فيه بنو فلان فأحلوا حرمته فهلكوا، و بنو فلان فأحلوا حرمته فهلكوا، حتى عده إن شاء الله، ثم قال: “والله لأن أعمل عشر خطايا بغيره أحب إلي من أن أعمل واحدة بمكة”18، وقال عبدالله بن مسعود: “ما من عبد يهم بخطيئة فلم يعملها فتكتب عليه ولو هم بقتل الإنسان عند البيت وهو بعدن أبين أذاقه الله من عذاب أليم”، وقرأ: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.19

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي   قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرام، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)20. فالله الله -عباد الله- في تقوى الله، والبعد عن انتهاك حرمات الله، وعليكم بتعظيم شعائره وحرماته، وعدم الاستهانة بشرعه. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

 


1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، صـ(31) لسليمان بن عبد الوهاب. الناشر: مكتبة الرياض الحديثة – الرياض.

2 تفسير القرآن العظيم (3/294). لابن كثير.

3 جامع العلوم والحكم، صـ(173). ابن رجب الحنبلي. الناشر: دار المعرفة – بيروت. الطبعة الأولى (1408هـ).

4 رواه ابن ماجه، قال الألباني: “صحيح”، وذكره الألباني في الصحيحة رقم(505).

5 رواه مسلم.

6 رواه أحمد، وشعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند:” حديث صحيح وهذا إسناد حسن”.

7 جامع العلوم والحكم(26). لابن رجب.

8 حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.

9 رواه البخاري ومسلم.

10 حلية الأولياء (1/217) لأبي نعيم الأصبهاني. الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت. الطبعة الرابعة(1405هـ).

11 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (34). الناشر : دار الكتب العلمية – بيروت.

12 الجواب الكافي، صـ(99). دار الكتب العلمية – بيروت.

13 صيد الخاطر(195).

14 مدارج السالكين(2/74). لابن القيم.

15  الشفا (2/250) للقاضي عياض.

16 رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني. وقال ابن تيمية: ” هذا الحديث جيد” الصارم المسلول(52).

17 رواه البخاري ومسلم.

18 شعب الإيمان(3/443) للبيهقي.

19 أخرجه أحمد.

20 رواه البخاري.