عصر السرعة

عصر السرعة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإنه ما يقع من شيء في هذا الكون الفسيح إلا بقدر من الله – تعالى-، وسبق كتاب في اللوح المحفوظ الذي كتب الله – تعالى – فيه مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله  يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة1.

فالله – تبارك وتعالى – يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا معتقد أهل الإسلام المؤمنين بالله، وبما أنزل من الكتب، وما أرسل من الرسل.

ومن علم الله – تعالى – أن يكون هذا العصر عصر تنامي المعارف، وتكاثر المعلومات ووفرتها، وسهولة الوصول إليها، وسرعة تناقلها، بل وسرعة بلوغ الأخبار من كل مكان في ثوان معدودة، وهذا كله من تسخير الله وتيسيره للإنسان، فمخترع مواد وآلات السرعة المعاصرة مخلوق ضعيف من مخلوقات الله، إنما أقدم على المادة الموجودة في الكون، وعمل على استخراجها بصور مختلفة لصالح البشرية، وهذا كله لا غبار عليه ما دام في الإطار الذي لا يخالف الإسلام.

ولقد تعددت أوجه السرعة في مخترعات ومنتجات هذا العصر في:

سرعة الحصول على المعلومة، وسرعة وصولها.

وسرعة بلوغ الأخبار ووصولها إلى مشارق الأرض ومغاربها في لحظات يسيرة.

وسرعة التواصل والاتصال مع الناس في جميع أقطار الأرض وبعض أقطار السماء كما هو الحاصل في التواصل مع من يكون في الطائرة، أو الأقمار الصناعية ونحو ذلك.

وسرعة التنقل بين الدول والمدن، فالمسافة التي كانت تقطعها الأقدام بالأشهر تقطعها اليوم المخترعات الحديث كالطائرات، والقطارات ؛بالساعات، وربما بالدقائق!

وسرعة الإنتاج في الأماكن الصناعية، وكثافة ذلك الإنتاج في وقت يسير.

إنها سرعة العصر وعصر السرعة بما تعني الكلمة من معنى.

لكن بقيت سرعة مهمة في حياة الإنسان الظلوم الجهول، تلك السرعة التي يفقدها أكثر الناس، ويخسرون بسببها الفلاح والسعادة الحقيقية، إنها السرعة والمسارعة إلى الأعمال الصالحة، فهل يا ترى توجد هذه السرعة في هذا العصر؟ وهل أصبح عصر السرعة مستوعباً لهذا المعنى!

إنك لتعجب ممن يتكلم عن عصر السرعة، ويذكر الأمور المادية، ثم تراه أبطأ الناس عن طاعة الله، وهذا من المسلمين؛ فكيف بالملاحدة والكفار الذين لا يؤمنون بإله ولا رب، أو يؤمنون بآلهة مفتراة من دون الله!

إنه لا بد أن يكون للمسارعة إلى الطاعات في عصر السرعة نصيب أكبر وأهم، وأعظم وأجل، وإلا كان الإنسان شقياً تعيساً نكداً!

إن الله – تبارك وتعالى – قد قال عن الإنسان – كل الإنسان -: وَالْعَصْرِ۝ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ۝ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ سورة العصر، إن الإنسان في خسارة دائمة مهما كانت سرعته نحو المادة ما لم يكن سريعاً نحو الأعمال الصالحة التي تسعده في الدنيا، وتنجيه في الآخرة إلى جنة الله – تبارك وتعالى -.

وإن المسارعة إلى الأعمال الصالحة من الأمور التي حث الله – تعالى – عليها حيث يقول سبحانه: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (سورة آل عمران:133).

ويحث – تعالى – على المسابقة إلى الطاعة وهي منزلة أكبر من المسارعة؛ لأن المسابقة تعني السبق والوصول إلى الهدف قبل أي أحد، والمسارعة تكون أثناء العمل فقال – تعالى-: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (سورة الحديد:21) ومعنى المسارعة في الطاعات المبادرة إليها أثناء وقتها، وعدم تأخيرها إلى فوات الوقت، أو هي فعل الطاعة في وقتها المحبوب إلى الله – تعالى -، والإكثار من القربات، والتنافس في عمل الصالحات.

إخواني: لا بد من أن يكون هذا العصر عصر السرعة المادية والإيمانية، فما أعظم الإنسان حينما يكون مسارعاً إلى الله – تعالى – في الخير، وما أجمله عندما يكون مسارعاً إلى نفع العباد النفع المادي والمعنوي لاختصار أوقات العباد وأموالهم!

وإن التقصير في المسارعة الإيمانية دمار على الأفراد والشعوب، وخطر داهم يهدد نفسيات الناس، واستقرارهم النفسي والقلبي والفكري، ويكون وبالاً عليهم في الآخرة، فلا بد أن يجعل الإنسان حياته كلها لله – تبارك وتعالى -، حتى في أعماله الدنيوية لا بد أن تصاحب ذلك نية طيبة وخالصة؛ لينال الأجر على كل ما يعمله من عمل مباح.

أما الأشقياء التعساء فمهما سارعوا إلى دنياهم ومادياتهم وهم في غفلة عن ربهم فإن تلك السرعة، وكل أدواتها وموادها؛ تكون عليهم وبالاً وجحيماً في الدنيا والآخرة كما قال – سبحانه وتعالى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (سورة محمد:12).

فاللهم اجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، المجتنبين الكبائر والموبقات، المستغفرين من كل الذنوب والسيئات؛ إنك على كل شيء قدير.

والحمد لله رب العالمين


1 رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن حبان.