حرمة الأزمنة والأمكنة المعظمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله سبحانه يخلق ما يشاء ويختار، فقد خلق الكون كله علويه وسفليه، واختار من ذلك ما شاء من الأمكنة، والأزمنة، ففضل بعضها على بعض، فاختار من الأزمنة شهوراً، وأياماً، وساعات معينة فضَّلها بمزيد من الفضائل، فمن الشهور شهر رمضان، والشهور الأربعة الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، ومن الأيام: يوم عرفة، ويوم الجمعة، ومن الليالي: ليلة القدر، ومن الساعات: آخر ساعة من يوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، وما إلى ذلك من الأزمنة الفاضلة.
واختار من الناس: الأنبياء، والرسل، ومن الرسل: أولي العزم، ومن أولي العزم: محمداً ﷺ، وكما فضل بعض الأزمنة على بعض؛ فقد فضَّل بعض الأمكنة على بعض، ومن هذه الأمكنة التي فضَّلها الله على سائر الأماكن: المساجد، فهي أحب البقاع إلى الله؛ لما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها، وعن ابن عمر أن رجلا سأل النبي ﷺ : أي البقاع شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبريل، فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق1. فـالمساجد أحب البلاد إلى الله: “لأنها بيوت الطاعات، وأساسها على التقوى”، والأسواق أبغض البلاد إلى الله: “لأنها محل الغش، والخداع، والربا، والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والإعراض عن ذكر الله وغير ذلك مما في معناه … والمساجد محل نزول الرحمة، والأسواق ضدها”2.
وقال الطيبي: “تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصًا تلميح إلى قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا (سورة الأعراف:58)، وذلك لأن زوار المساجد: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ (سورة النــور:37)، وقُصاد الأسواق شياطين الجن والإنس من الغفلة، والحرص، والشره، وذلك لا يزيد إلا بعداً من الله، ومن أوليائه، ولا يورث إلا دنواً من الشيطان وأحزابه، اللهم إلا من يغدُ إلى طلب الحلال الذي يصون به عرضه، ودينه”3.
ففي المساجد يعبد الله ويوحد، ويثنى عليه ويمجد، وفيها يركع له ويسجد، وفيها تقام الصلوات، ومجالس العلم، فيذكر الناسي، ويعلم الجاهل، لهذا وغيره كانت أحب البلاد إلى الله، فهي المكان الذي يتصل فيه المخلوق بالخالق، ومن هذه البقاع تخرج العلماء والفقهاء، والقادة والعظماء، والعباد والزهاد، وفيها رفعت الأيدي لرب الأرض والسماء، وعفرت الجباه لذي العزة والكبرياء؛ فهي بذلك أحب البقاع إلى الله. فالمساجد كلها أحب البقاع إلى الله، ولكن ثمة ثلاثة مساجد لها مزيد من المزايا: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله ﷺ، والمسجد الأقصى؛ فعن جابر بن عبدالله أن رسول الله ﷺ قال: صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه4، وعن أبي ذر قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله ﷺ أيهما أفضل مسجد رسول الله ﷺ أو مسجد بيت المقدس؟ فقال رسول الله ﷺ : صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى، وليوشكن أن لا يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً – أو قال – خير من الدنيا وما فيها5 قال ابن القيم رحمه الله: “وقد روي في بيت المقدس التفضيل بخمسمائة وهو أشبه”6.
ولذلك لم يجز أن تشد الرحال وتقصد إلا لهذه الثلاثة المساجد؛ فعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ﷺ ، ومسجد الأقصى رواه البخاري ومسلم.
ويضاف إلى ذلك مسجد قباء في أن الصلاة فيه لها مزية عن بقية المساجد وليس في شد الرحال؛ فعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله ﷺ : من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة7.
وكما أن ثواب الأعمال الصالحة في هذه الأزمنة والأمكنة تضاعف؛ فكذلك الأعمال السيئة يضاعف وزرها، كما يشير إلى ذلك الحافظ ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ (سورة التوبة:36)، فيقول: “أي في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله تعالى: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذابٍ أليم، وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام”8.
فالحذر من الذنوب في أي مكان، وفي أي زمان، وخاصة في الأزمنة، والأمكنة الفاضلة؛ فإن العقوبة والوزر أشد وأعظم.
1 أخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وصححه الذهبي في تلخيص الحبير، وشعيب الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان.
2 ينظر: شرح النووي على مسلم (5 /171).
3 فيض القدير (1 /170) للمناوي.
4 رواه ابن ماجة، وقال الألباني: “صحيح”.
5 رواه الحاكم في المستدرك، وقال: “وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه” وصححه الذهبي تلخيص الحبير.
6 المنار المنيف (93).
7 رواه ابن ماجه، وقال الألباني: “صحيح” كما في صحيح ابن ماجة رقم (1160).
8 تفسير القرآن العظيم (2 /465).