وفاة زعيم المنافقين
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وأهله، أما بعد:
فإن الموت جار على جميع الخلائق ولا يبق إلا وجه الله تعالى، ولكن فرق بين من يموت على الإسلام ومن يموت على الكفر والنفاق، فذاك في نعيم دائم والآخر في شقاء قائم، نسأل الله أن يميتنا على الإسلام والإيمان..
وقد عاش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيناً من الدهر ومع ذلك جاءه الموت كما يأتي غيره من البشر.. وعاش معه أناس في المدينة منهم المؤمن ومنهم المنافق وكلهم رحلوا إلى الله تعالى ليجازيهم أتم الجزاء على كل ما فعلوه..
وممن خالط المسلمين في المدينة وجالسهم عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان يوصف بأنه زعيم المنافقين، وقد مات على نفاقه ولم يعرف أنه تاب إلى الله، وقد فعل الأفاعيل بالمسلمين منذ أن دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدنية حتى مات ابن أبي، فهو الذي مكر مع اليهود ضد المسلمين، وهو الذي انسحب بثلث الجيش في معركة أحد؛ لإضعاف المسلمين وإلحاق الهزيمة بهم، وهو الذي أشاع حادثة الإفك التي ضجت بها المدينة شهراً كاملاً وسار على دربه في هذه التهمة الرافضة الملاعين إلى يومنا هذا، قبحهم الله فلهم في المنافقين سلف وقدوة، وهو الذي قال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" وهذه كلها تدل على نفاقه وكرهه للدين ونبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- طمعاً منه في الزعامة والرئاسة مضحياً في ذلك بدينه وربه وآخرته، فما أتعس الأشقياء حينما لا ينطلقون إلا من مبادئ بطونهم وفروجهم وأهوائهم ويتركوا شرع الله جانباً..! هكذا عاش الرجل حياة اللعب على الحبال، والتفريق بين المسلمين وانتهاز الفرص التي يحاول التفرقة من خلالها بينهم، ولكن الله خيب عمله وسعيه، وأهلكه مع من أهلك من قبله، فجاءته المنية قبل أن يقضي كيده وخططه الخبيثة للمس بالمسلمين..
وقد كانت حادثة وفاته عبرة لمن يعيش بوجوه متعددة بين المسلمين.
روى البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصلي عليه فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثبْتُ إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا، كذا وكذا ؟! قال: أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (أخر عني يا عمر) فلما أكثرت عليه قال: (إني خيرت فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها) قال: فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة:
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) سورة التوبة. قال: فعجبت بعدُ من جرأتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله ورسوله أعلم1.
قال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد، قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عبدالله بن أبي يعوده في مرضه الذي مات فيه، فلما عرف فيه الموت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود" فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فمه؟.
قال ابن حجر: "ذكر الواقدي ثم الحاكم في "الإكليل" أنه مات بعد منصرفهم من تبوك وذلك في ذي القعدة سنة تسع، وكانت مدة مرضه عشرين يوماً، ابتداؤها من ليال بقيت من شوال، قالوا: وكان قد تخلف هو ومن تبعه عن غزوة تبوك، وفيهم نزلت: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) سورة التوبة..2
قال الواقدي: فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يجود بنفسه فقال: "قد نهيتك عن حب يهود" فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه؟! ثم قال: يا رسول الله ليس هذا بحين عتاب! هو الموت، فاحضر غسلي وأعطني قميصك الذي يلي جلدك فكفني فيه، وصل علي واستغفر لي.3 ففعل ذلك به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن كثير: وروى البيهقي من حديث سالم بن عجلان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحواً مما ذكره الواقدي. فالله أعلم.4
وعن جابر بن عبدالله قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر عبدالله بن أبى بعد ما أدخل حفرته، فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه -أو فخذيه- ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه5. فالله أعلم.
وفى صحيح البخاري بهذا الإسناد مثله، وعنده أنه إنما ألبسه قميصه مكافأة لما كان كسا العباس قميصاً حين قدم المدينة فلم يجدوا قميصاً يصلح له إلا قميص عبدالله بن أبي.6
وفي مسند أحمد عن جابر قال: لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعير بهذا، فاتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجده قد أدخل في حفرته، فقال: (أفلا قبل أن تدخلوه)، فأخرج من حفرته فتفل عليه من قرنه إلى قدمه، وألبسه قميصه.
هكذا انتهى عبد الله بن أبي من هذه الدنيا، مخلفاً وراءه كوابيس من المنافقين الذين آذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل، وتعاونوا مع اليهود ضد المسلمين، وقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به ذلك قبل نزول الوحي الذي يبين عدم جواز الصلاة على الكافر والمنافق، ولهذا تبين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يصلي على أحد علم أنه منافق بعد نزول الآية التي تنهاه عن الصلاة على المنافقين.. وإنما فعل ذلك لعدم وجود مانع شرعي قبل نزول الوحي بالنهي، ولأنه -صلى الله عليه وسلم- رحيم بالناس جميعاً، ولهذا بكى عندما نهاه الله عن الاستغفار لأمه وأبيه اللذين ماتا على ملة قريش، فصلوات الله وسلامه عليه من نبي رؤوف رحيم، حليم كريم. وربما يحتمل أن من الأسباب التي دعته للصلاة عليه هي تطييباً لقلب ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي طلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة عليه وحضور جنازته لئلا تكون عليه وعلى أهله وقومه فضيحة وعاراً، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يكرم هذا الصحابي الجليل، وأمر أبيه موكول إلى الله تعالى.
ويحتمل أن يكون ذلك لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يحب أن تعرف العرب أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه ويتمنى زوالهم، لأن ابن أبي كان يتظاهر أنه من المسلمين.
قال ابن حجر العسقلاني: "وقع في رواية الطبري من طريق الشعبي: لما احتضر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، قال: (ما اسمك؟) قال : الحُباب، قال: (بل أنت عبد الله. الحباب اسم الشيطان). وكان عبد الله بن عبد الله بن أُبي هذا من فضلاء الصحابة، وشهد بدراً وما بعدها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه: أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في قتله، قال: (بل أحسن صحبته)، أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي الطبراني من طريق عروة بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه استأذن نحوه، وهذا منقطع لأن عروة لم يدركه، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، فلذلك التمس من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر، والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال: "أرسل عبد الله ابن أبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما دخل عليه قال: (أهلكك حب يهود)، فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني! ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه" وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي -صلى الله عليه وسلم- فكلمه، فقال: قد فهمت ما تقول! فامنن علي فكفني في قميصك وصل عليَّ ففعل".
وكأن عبد الله بن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله، إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك.. وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة".7
دروس من القصة:
إن عبد الله بن أبي مات منافقاً ولم يسلم، وهذا مما لا شك فيه بين المسلمين، ولهذا جزم عمر بن الخطاب بأنه منافق حيث قال في رواية: (أتصلي عليه وهو منافق؟) فلم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- تسميته بالمنافق.. قال ابن حجر رحمه الله: "أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام، كما تقدم تقريره- واستصحاباً لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين، فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك؛ لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق! ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى. قال الخطابي: إنما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبد الله بن أُبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألُّف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعاراً على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي.انتهى. وتبعه ابن بطال وعبَّر بقوله: ورجا أن يكون معتقدا لبعض ما كان يظهر في الإسلام. وتعقبه ابن المنير بأن الإيمان لا يتبعض. وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفاً.
قلت: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى عليه!! وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة. وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته، وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة. وقد أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) قال: فذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وما يغني عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه"8.9
إنها وفاة من كتب الله عليه الشقاوة فعمل بأسبابها إلى النهاية، وتجرأ على الله ورسوله، ولم يستسلم لشرعه..
اللهم إنا نعوذ بك من ميتة السوء، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا، بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنك رب العالمين وأرحم الرحمين.. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء..
اللهم صل وسلم على حبيبنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به واقتفى سنته إلى يوم الدين.
1 رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي.
2 فتح الباري لابن حجر – (ج 13 / ص 109).
3 قال الذهبي في تاريخ الإسلام: "هذا حديث معضل واه، لو أسنده الواقدي لما نفع، فكيف وهو بلا إسناد!!".
4 السيرة النبوية لابن كثير (4 / 66).
5 رواه البخاري ومسلم.
6 السيرة النبوية لابن كثير (4/66).
7 فتح الباري لابن حجر – (ج 13 / ص 109).
8 ذكره الطبري في تفسيره (14/410).
9 فتح الباري لابن حجر (13 / 109).