يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا

يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا

يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا

 

الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

أيها الناس: فمما لا شك فيه أن الكفار من اليهود والنصارى قد وصلوا إلى مرحلة متقدمة في العلوم الدنيوية، والصناعات المتطورة، والوسائل الحديثة، والتقنيات المذهلة.

ولكن علينا أن لا ننسى -معاشر المسلمين- أن هذه العلوم الدنيوية التي وصلوا إليها كان لنا قصب السبق فيها، فأخذوها منا وطورها وشجعوا المبتكرين والمخترعين، بل وقاموا باستقدام العقول العربية والإسلامية الذكية إليهم، وشجعوهم في حين أننا همشنا كل عقل مبتكر ومبدع، بل ربما بعض دولنا العربية حاربت كل مبتكر وضايقته في معيشته، وفي أهله، فإذا ما خرج من كلية علمية بدرجة ممتازة قد لا يجد وظيفة يعمل فيها في تخصصه ذلك، مما يضطر إلى العمل في مجال غير تخصصه، وهكذا…

أيها الناس: إننا نجد طائفة من الناس يتفكرون في قدرة البشر وما وصل إليه من تقنية أكثر من تفكرهم في عظمة الله -جل جلاله-، فبعض الناس إذا رأوا جهاز حاسب آلي (كمبيوتر) ذا سرعة فائقة ودقة متناهية وصغر حجم، قالوا وهم يهزون رؤوسهم عجبا: هذه صناعة دولة كذا فإنها لا تدخل في صناعة شيء إلا أتقنته، والبعض الآخر يقول: إذا نويت أن تشتري سلعة فابحث عن سلعة دولة كذا. لماذا هذه الثقة؟ لأنهم أيقنوا من جودة صناعتها، وفي مقابل ذلك لا نجد التفكر في حكمة الله وأنه هو الحكيم الخبير وأنه لا يأتي بشيء إلا هو متقنه؛ لأنه أتقن كل شيء خلقه؛ كما قال تبارك وتعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ سورة النمل(88) ولا يأمر بشيء إلا وهو خبير بمصلحتنا فيه سواء كان تشريعا سياسيا أم اقتصاديا أم اجتماعيا أو نحوه.

فإلى متى ننزع الثقة من تشريع الله ونضع الثقة في قوانين البشر مع إنهم لا يعلمون من الحياة إلا الظاهر منها ويخفى عليهم فيها الكثير لقوله تبارك وتعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ سورة الروم(7).

فذاك هو مبلغ عملهم أنهم علموا بعض علوم الدنيا، ولكنهم عن الحياة الحقيقية غافلون؛ قال الله -جل في علاه-: فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ سورة النجم (29)(30) فهم يجتهدون في العلم بأمور دنياهم، ويمعنون في تحصيلها ، مع جهلهم التام بأشرف العلوم، وهى علوم الآخرة التي هي شرف لازم لا يزول، دائم لا يمل، فجدير بمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أن يبغضه الله، ويمقته لشقاوته وإدباره، فالله -سبحانه وتعالى- كرمهم بنعمة العقل، وميزهم بها على العجماوات، فسخروها أعظم تسخير في كل شيء من أغراض الدنيا الخسيسة، كالتأنق في الشهوات والمأكل والملبس والترفه، إلا الشيء الذي خلقوا من أجله، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال تعالى في حقهم: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ سورة البقرة (171)، وقال سبحانه: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا سورة الفرقان (44)، وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ سورة محمد(12).

وأما أهواء الذين لا يعلمون فمهما كانوا في العلم الدنيوي فإنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ومهما ادعوا أنهم بلغوا من المعرفة فهم لا يعلمون؛ لأن هذا حكم الله عليهم، ولذلك نجد أن سائر من اشتغل بهذه العلوم يعلمون أن الإنسان إذا اجتهد وتخصص وبحث في الأمور التجريبية، أو الطبيعية، أو الرياضية، أو ما أشبه ذلك.. أنه يأتي بشيء نافع ولو في دنياه، ويكون ذلك من العلم الظاهر في الحياة الدنيا، ولكن تجد أن الفرق كبير جداً بين النظريات العلمية كما تسمى في عصرنا الحاضر بالتجريبي والتطبيقي، وبين الدراسات والنظريات التي يسمونها الإنسانية، التي تتعلق بعلم النفس، وعلم الاجتماع، والإدارة والنظم، والقوانين أو ما أشبه ذلك، تجد الفرق بين هذين كبيراً جداً، وتجد أنها أهواء كما ذكر الله تبارك وتعالى.

أيها الناس: إن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون، وأن علموا علموا ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن غافلون عن الآخرة، وقد جاءت آيات كثيرة تبين أن الكفار لا يعلمون ما ينفعهم، وما يقودهم إلى الإيمان بالله، وبما جاء عن الله، فقال تعالى: ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ سورة هود(17). وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين سورة الصافات(71)، وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ في تسع مواضع من سورة الشعراء. وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ سورة الأنعام (116)، وقال تعالى: وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ سورة يوسف (103). إلى غير ذلك من الآيات..

أيها الناس: يقول الله سبحانه وتعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ، يقول العلامة الشنقيطي-رحمه الله-: "اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا القرآن أن يتدبر آية الروم تدبراً كثيراً، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.

وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى ضعاف العقول من المسلمين شدة إتقان الإفرنج؛ لأعمال الحياة الدنيا ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش، وغلط فادح..

وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة وتخفيف لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه..

فقد أوضح -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا يعلمون، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولاً أولياً، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل؛ لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم، فأبرزهم من العدم إلى الوجود، ورزقهم، وسوف يميتهم، ثم يحييهم، ثم يجازيهم على أعمالهم، ولم يعلموا شيئاً عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية في عذاب فظيع دائم: ومن غفل عن جميع هذا فليس معدوداً من جنس من يعلم كما دلت عليه الآيات القرآنية المذكورة، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل أثبت لهم نوعاً من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره.

وعاب ذلك النوع من العلم بعيبين عظيمين:

أحدهما: قلته وضيق مجاله، لأنه لا يجاوز ظاهراً من الحياة الدنيا، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا، والعلم بأوامره ونواهيه، وبما يقرب عبده منه، وما يبعده منه، وما يخلد في النعيم الأبدي من أعمال الخير والشر.

والثاني منهما: هو دناءة هدف ذلك العلم، وعدم نيل غايته؛ لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا، وهي سريعة الانقطاع والزوال ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً أنه بدل من قوله قبله: (لا يعلمون)، فهذا العلم كلا علم لحقارته".1

عباد الله:"وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقاً لما أمر الله به، على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-: كانت من أشرف العلوم وأنفعها؛ لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جل وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن كما قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ سورة الأنفال (60) فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر الله تعالى وسعياً في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة، كما ترى الآيات بمثل ذلك كثيرة"2.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونعوذ بك من علم لا ينفع، إنك خير مسؤول وأعظم مأمول، اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: إن مما يجب علينا معرفته أن لا نغتر بما وصل إليه الكفار من تقدم صناعي وتكنولوجي، ولنعلم أنهم إن تقدموا صناعياً فقد تأخروا دينياً ، فلم يسلموا لله رب العالمين، بل خالفوا أمره وعصوا رسله وقتلوا أنبيائه، وحاربوا أوليائه، ولم يعلموا أنهم إلى الله راجعون وعن عملهم مجازون.

أيها المؤمن: إن الخسارة الكبرى، والداهية العظمى، أن تصاب في دينك وبما يقربك إلى الله،  فلا تلقي لذلك بالاً، ولا تحرك لذلك ساكناً، بل ولا تشعر أنه نقص منك شيء عظيم، فإذا ما فقدت شيئاً من الدنيا أقمت الدنيا ولم تقعدها، بل ربما حزنت حزناً شديداً، وحاسبت نفسك على ذلك حساباً قاسياً، وبذلت من أجل أن لا تفقد ذلك مرة أخرى، وسعيت في تعويض ذلك في المستقبل القريب، وأما دينك فأمر ثانوي، وغير أساسي…

ومن البلية أن ترى لك صاحبا *** في صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله *** وإذا يصاب بدينه لم يشعر

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم معرفته، وأن يحفظ لنا ديننا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


 


1 إلى هنا كلام الشنقيطي وما بعده له.. بتصرف يسير.

2 أضواء البيان للشنقيطي رحمه الله(6/251).