أحكام النظر والاختلاط
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بما وصى الله به الأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ سورة النساء(131). بتقوى الله كل حبل يقوى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ْسورة الطلاق(2). وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا سورة الطلاق(4). وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا سورة الطلاق(5).
أيها الناس: لقد حرم الله فاحشة الزنى وحرم كل وسيلة توصل إليه، فقال سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً سورة الإسراء(32). ولذلك فقد حث الإسلام على فعل كل الوسائل التي تسد الطرق الموصلة إلى هذه الجريمة، وسد كل الطرق التي توصل إلى ذلك، والوسائل لها أحكام المقاصد، لذلك فقد أوجب الله على الرجال غض أبصارهم عن النظر إلى المرأة الأجنبية، فقال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ سورة النــور(30)، ولم يجز ذلك إلا عند الحاجة والضرورة.
وأوجب على النساء الحجاب، وحذرهن من التبرج والسفور، فقال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى سورة الأحزاب(33)، وقال تعالى آمراً نبيه بأن يأمر النساء بالحجاب، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا سورة الأحزاب(59). ولكن يجب علينا أن نعلم أن الحجاب الذي أمر الله النساء به ليس تغطية شعر الرأس، وإظهار الوجه!، وليس الحجاب المأمور به تغطية بعض الوجه وإظهار البعض الآخر كالعينين، ولكن الحجاب الذي أمر الله به وحث عليه هو تغطية كل معالم الجمال والزينة فيها، وأهم شيء في الجمال هو الوجه والعينان، فيجب أن يكون الحجاب ساتراً لجميع البدن، غليظاً فضفاضاً، غير مطيب ولا مبخر، وأن يكون طويلاً، وليس فيه تشبه بالرجال، ولا مما حرم الله لبسه من ألبسة الكفار.
كما حرم الله على الرجال والنساء سماع الغناء؛ لأن الغناء رقية الزنى، يقول ابن القيم رحمه الله عن الغناء: " فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنى، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى"1. والله تبارك وتعالى يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ سورة لقمان(6), ولهو الحديث هو كل كلام باطل، ويدخل في ذلك الغناء، فإنه من أبطل الباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير)2. وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يكون في أمتي قذف، وخسف، ومسخ)، قيل: يا رسول الله ومتى ذاك؟ قال: (إذا ظهرت المعازف، وكثرت القِيَان، وشُرِبَت الخمور)3.
وحث الشباب على الزواج، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)4.
وحث أولياء الأمور على تيسير المهور، فقال تعالى: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ سورة النــور(32).
وكذلك حرم الاختلاط بين الرجال والنساء؛ لأن الاختلاط سبب لكثرة الفواحش والزنى5 وقد بين العلماء أن: "الدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثاره: الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع، ويهدم قيمه وأخلاقه"6.
وحرم أيضاً الخلوة بالمرأة الأجنبية، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).. فما ظنك باثنين ثالثهما الشيطان؟ فكيف إذا إنضاف إلى ذلك صوت مزامير، وقلة إيمان، فلاشك أن ذلك خطر عظيم!!..
بل جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر-رضي لله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت). والحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه.
أيها الناس: ومن الوسائل الموصلة إلى الزنا التي حرمها الله: النظر إلى النساء، ذلك أن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، وغض البصر من أجل الأدوية لعلاج القلب، وفيه حسم لمادتها، وبامتثال المؤمن لغض البصر وحفظ الفرج يسلم من حبائل الشيطان، وهواجس النفس، وبلبلة الفكر، وضياع دينه ودنياه، ويسلم المجتمع من إشاعة الفواحش والفوضى الجنسية بين أفراده7.
ولذلك فقد أمر الله الرجال بغض البصر، وليس الرجل فحسب، بل أمر النساء بذلك فقال تعالى: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ عن النظر إلى العورات والرجال، بشهوة ونحو ذلك من النظر الممنوع، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ من التمكين من جماعها، أو مسها، أو النظر المحرم إليها. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالثياب الجميلة والحلي، وجميع البدن كله من الزينة، ولما كانت الثياب الظاهرة، لا بد لها منها، قال: إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أي الثياب الظاهرة، التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وهذا لكمال الاستتار، ويدل ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها، يدخل فيها جميع البدن..
ثم كرر النهي عن إبداء زينتهن، ليستثني منه قوله: إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أي أزواجهن أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ يشمل الأب بنفسه، والجد وإن علا أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن ويدخل فيه الأبناء وأبناء البعولة مهما نزلوا أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أشقاء، أو لأب، أو لأم. أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أي يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا، ويحتمل أن الإضافة تقتضي الجنسية، أي النساء المسلمات، اللاتي من جنسكم، ففيه دليل لمن قال: إن المسلمة لا يجوز أن تنظر إليها الذمية.
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ فيجوز للمملوك إذا كان كله للأنثى، أن ينظر لسيدته، ما دامت مالكة له كله، فإن زال الملك أو بعضه، لم يجز النظر. أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أي أو الذين يتبعونكم، ويتعلقون بكم، من الرجال الذين لا إربة لهم في هذه الشهوة، كالمعتوه الذي لا يدري ما هنالك، وكالعنين الذي لم يبق له شهوة، لا في فرجه، ولا في قلبه، فإن هذا لا محذور من نظره.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ أي الأطفال الذين دون التمييز، فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب، وعلل تعالى ذلك، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء، أي ليس لهم علم بذلك، ولا وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا، أن المميز تستتر منه المرأة، لأنه يظهر على عورات النساء"8. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: لقد حثنا على الله على التوبة، وأمرنا بذلك، فبعد أن أمرنا الله بتلك الأوامر الحسنة، والوصايا المستحسنة، من غض للبصر، وحفظ للفرج، وكل وسيلة توصل إلى الوقوع في ذلك، فقال سبحانه وتعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ؛ لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا، إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا، ودل هذا أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة؛ لأن الله خاطب المؤمنين جميعا، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ أي لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا، أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ سورة التحريم(8).
اللهم تب على التائبين، واقض الدين عن المدينين، وفرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين من المسلمين، واشفي مرضانا ومرضى المسلمين..
اللهم إنا نسألك توبة صادقة تكون سبباً لنا للدخول في جنتك والفوز برضوانك، وتبعد عن نارك وغضبك.. اللهم إن نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم ازدنا بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما آخرنا وأما أسررنا ما أعلنا وما أنت أعلم به منا، إنك أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت كل شيء قدير. اللهم استرنا بسترك وعاملنا بلطفك وإحسانك..
اللهم احفظنا وأهلينا وجميع المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم أصلح نسائنا وبناتنا ووفقهن للستر والحجاب، وجنبهن التبرج والسفور والاختلاط، اللهم صن أعراضنا وأعراض المسلمين. اللهم طهر ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وأعمالنا من الرياء، وقلوبنا من الغل والحسد. اللهم استعلمنا في طاعتك، وجنبنا معصيتك يا رب العالمين.
اللهم عليك بكل متآمر على الإسلام والمسلمين، اللهم عليك بسائر الكافرين. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم كن لهم ناصراً وحافظاً ومؤيداً ومعيناً. اللهم عليك بسائر المعتدين والكافرين، اللهم بأعداء الدين أجمعين..
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عبادك المجاهدين عليهم.. اللهم إنك الكفار قد طغوا في البلاد، ارهبوا العباد، وأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربنا سوط عذاب..
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك الوهاب.. رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
1 إغاثة اللهفان(1/224).
2 رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وهو في صحيح الترغيب والترهيب، للألباني برقم (2378).
3 أخرجه الترمذي في: "كتاب الفتن"، وابن أبي الدنيا في"ذم الملاهي"، وهو في كتاب تحريم آلات الطرب، للألباني، صـ(63).
4 رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود.
5 كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية، (326).
6 يرجع: الفتاوى والمقالات المتنوعة (1/419). لابن باز..
7 انظر تفسير القاسمي(12/450).
8 يراجع : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(566).