الضرورات

الضرورات

 

الضرورات

 

الحمد لله نحمده ونستعين ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن مضلل فلا هادى له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى بنوره من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.. أما بعد:

أيها المسلمون:

إن الكثير من الناس اليوم يقع في المحرمات أو المكروهات ويقول: (الضرورات تبيح المحظورات) أو يقول: أنا مضطر، أو هذه ضرورة، وما فهموا معنى هذه القاعدة الشرعية العظيمة.

عباد الله:

نعم إن الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير، ونفي الحرج، والتخفيف عن الأمة، ورفع الإصر عنها؛ وهذه من نعم الله علينا، قال الله -عز وجل-: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ(78) سورة الحـج. "أي ضيق ومشقة، وقال مقاتل: يعني الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة، والإفطار بالسفر والمرض، والصلاة قاعداً عند العجز، وهو قول الكلبي، وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم، وضعها الله عن هذه الأمة"1.

وقال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ(185) سورة البقرة. وقال تعالى: رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا(286) سورة البقرة، ووصف الله رسوله بقوله: يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ(157) سورة الأعراف، وقال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا(28) سورة النساء، وقال تعالى: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ(6) سورة المائدة.

ومن قواعد الشرع: (إذا ضاق الأمر اتسع) و(عند الضرورات تباح المحظورات).

 ".. فالإسلام يحسب حساب الضرورات، فيبيح فيها المحظورات، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات، بغير تجاوز لها، ولا تعد لحدودها: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(173) سورة البقرة. وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات. ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات. فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة.."2.

وقد ذكر الله تعالى أنه حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به "وإنما أرخص فيه عند الضرورة، وفي ذلك توسعة لهذه الأمة، التي يريد الله بها اليسرى، ولا يريد بها العسرى، ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم، قبل أن ينسخها وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ(118) سورة النحل، أي في سورة الأنعام في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ(146) سورة الأنعام"3.

عباد الله:

إن الضرورة الشرعية التي تبيح المحرم: هي الضرورة الشديدة والظاهرة والملجئة والتامة، لا العادية. التي يخاف معها على الهلاك والموت، ولها ضوابط وحدود، فلا يحل لأحد أن يرتكب الحرام بدعوى الضرورة، وأنه مضطر، والضرورات تقدر بقدرها، إلا أن الكثير من الناس قد توسع في هذا الباب كثيراً.

فلا بد أن نعرف -أيها الأخوة- ما هي الضرورة؟

فالضرورة: هي الحالة الشاقة الشديدة التي لا مدفع لها، والتي لا يطيق الناس تحملها في المعتاد، ولا يصبرون على استمرارها، سواء أدت إلى هلاكهم، أو إلى إدخال العنت الشديد في حياتهم، والمؤمن الذي يخاف الله، لا بد أن يعرف حد الضرورة، والإنسان على نفسه بصيرة، وينبغي عرض كل حالة على العلماء الموثوقين لتقدير تلك الضرورة، وهل هي تدخل في حد الضرورة أو لا؟.

والضرورة: "هي خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل من الميتة" وقيل: "هي بلوغه حداً إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقى جائعاً أو عرياناً لمات أو تلف منه عضو". وقيل: الضرورة هي الخوف على النفس من الهلاك علماً أو ظناً، أو هي خوف الموت، ولا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت، وإنما يكفي حصول الخوف من الهلاك ولو ظناً. وقيل: من خاف من عدم الأكل على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب. ولم يجد حلالاً يأكله ووجد محرماً لزمه أكله. وقيل: الضرورة: هي الخشية على الحياة إن لم يتناول المحظور، أو يخشى ضياع ماله كله، أو أن يكون الشخص في حال تهدد مصلحته الضرورية ولا تدفع إلا بتناول محظور لا يمس حق غيره. وقيل: الضرورة أشد دفعاً من الحاجة، فالضرورة: هي ما يترتب على عصيانها خطر، كما في الإكراه الملجئ وخشية الهلاك جوعاً. كل أنواع الضرورة وهي: ضرورة الغذاء والدواء، والانتفاع بمال الغير، والمحافظة على مبدأ التوازن العقدي في العقود، والقيام بالفعل تحت تأثير الرهبة أو الإكراه، والدفاع عن النفس أو المال أو نحوهما وترك الواجبات الشرعية المفروضة، وهذا هو المعنى الأعم للضرورة"4.

إذاً الضرورة: "هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع"5.

فليس من الضرورات -عبد الله-:

أن تضع مالك في البنك، ثم تأخذ عليه فوائد ربوية، وليس من الضرورات أن تذهب المرأة إلى طبيب مع وجود طبيبة، وليس من الضرورة أن تأخذ الرشوة، ولا من الضرورة أن يفعل الكثير من الناس المحرمات باسم الضرورة. إن للضرورة -عباد الله- ضوابط وشروط، ذكرها أهل العلم، لا أن يأتي كل أحد ويفعل المحرمات بحجة الضرورة. وهذا ما سنعرفه في الخطبة الثانية -إن شاء الله- أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.. أما بعد:

أيها المسلمون:

إن الضرورة هي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة: وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ولا يمكن أن تستقر الحياة بفقد واحد منها، وهي تنحصر في حفظ خمسة أشياء: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة.

عباد الله:

إن الضرورة الشرعية لها ضوابط:

أولاً- أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة، أي أن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال، وذلك بغلبة الظن حسب التجارب، أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضروريات الخمسة، التي ذكرناها، والتي صانتها جميع الديانات والشرائع السماوية: وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال، فيجوز حينئذ الأخذ بالأحكام الاستثنائية لدفع الخطر، ولو أدى ذلك إلى أضرار الآخرين عملاً، بقاعدة: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما" فإذا لم يخف الإنسان على شيء مما ذكر، لم يبح له مخالفة الحكم الأصلي العام من تحريم أو إيجاب.

ثانياً- أن يتعين على المضطر مخالفة الأوامر أو النواهي الشرعية، أو ألا يكون لدفع الضرر وسيلة أخرى من المباحات إلا المخالفة بأن يوجد في مكان لا يجد فيه إلا ما يحرم تناوله، ولم يكن هناك شيء من المباحات يدفع به الضرر عن نفسه، حتى ولو كان الشيء مملوكاً للغير، فلو وجد مثلاً طعاماً لدى آخر فله أن يأخذه بقيمته، وعلى صاحب الطعام أن يبذله له. ومن استطاع في الأحوال العادية أن يقترض من غيره بدون فائدة، فلا يجوز له إطلاقاً الاقتراض بفائدة أو البيع بالربا. وعند مخالفة الأوامر ينبغي أن يؤذن شرعاً للمضطر التحلل من الواجب.

ثالثاً- أن يكون في حالة وجود المحظور مع غيره من المباحات أي في الحالات المعتادة عذر يبيح الإقدام على الفعل الحرام، أي أن تكون الضرورة ملجئة بحيث يخشى تلف النفس  والأعضاء، كما لو أكره إنسان على أكل الميتة بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه، وعدم وجود الطيبات المباحات أمامه، أو يخاف إن عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة، أو عجز عن الركوب، هلك، وقد صرح الشافعية والحنابلة أن كل ما يبيح التيمم يبيح تناول الحرام، فيعتبر خوف حصول الشيء الفاحش في عضو ظاهر كخوف طول المرض مما يبيح كل منهما التناول من الحرام.

رابعاً- ألا يخالف المضطر مبادئ الشريعة الإسلامية الأساسية التي ذكرناها من حفظ حقوق الآخرين، وتحقيق العدل، وأداء الأمانات، ودفع الضرر، والحفاظ حقيقة على مبدأ التدين، وأصول العقيدة الإسلامية، فمثلاً لا يحل الزنا والقتل والكفر والغصب بأي حال، لأن هذه مفاسد في ذاتها، ومن مخالفة مبادئ الشريعة: الصلح الدائم مع اليهود إذ لا يجوز الصلح مع الأعداء إلا على أساس قواعد عهد الذمة والتزام الأحكام الإسلامية، كما لا يجوز إقرار الغاصب لبلادنا على غصبه، وكل ما يجوز هو الهدنة المؤقتة التي يجوز تمديد مدتها بحسب الضرورة أو الحاجة.

خامساً- أن يقتصر فيما يباح تناوله للضرورة في رأي جمهور الفقهاء على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر، (ما تندفع به الضرورة) لأن إباحة الحرام ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، لذلك "اختلف العلماء في مقدار ما يأكل المضطر من الميتة، فقيل: لا يأكل المضطر من الميتة إلا مقدار ما يسد الرمق والنفس، وقيل: ما يسد جوعته، وقيل: من تغد لم يتعش منها، ومن تعش لم يتغد منها، أي ليس له أن يجمع بينهما، وفي الحديث المرفوع، متى تحل لنا الميتة يا رسول الله؟ قال: (ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا)6 والصبوح الغداء، والغبوق العشاء، ونحو هذا"7

أن يمر على المضطر للغذاء يوم وليلة، دون أن يجد ما يتناوله من المباحات، وليس أمامه إلا الطعام الحرام -في رأي الظاهرية- وتحديد المدة على هذا النحو مأخوذ من الحديث الشريف السابق في إباحة أكل الميتة ومعناه "أن يأتي الصبوح والغبوق، ولا يجد ما يأكله" أي يأتي الصباح والمساء ولا يجد الإنسان طعامهما أو لبنهما المعتاد المعروف بالصبوح والغبوق. والأصح أنه لا يتقيد الاضطرار بزمن مخصوص لاختلاف الأشخاص في ذلك.

قال الإمام أحمد: إن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل من الحرام، وذلك إذا كان المضطر يخشى على نفسه سواء أكان من جوع أو يخاف إن ترك الأكل من الميتة ونحوها، عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة، فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور.

سادساً- أن يصف المحرم -في حال ضرورة الدواء- طبيب عدل ثقة في دينه وعلمه، وألا يوجد من غير المحرم علاج أو تدبير آخر يقوم مقامه حتى يتوفر الشرط السابق: وهو ألا يكون ارتكاب الحرام متعيناً. 

سابعاً- أن تقدم الضرورة العامة للأمة على الضرورة الخاصة للفرد.

كضرورات الجماعة وسلامة كيانها: فكما اعتبرت الشريعة ضرورات الأفراد، فأباحت بسببها لهم كثيراً من المحظورات مقدرة بقدرها، واعتبرت كذلك ضرورات الأمة، وما تقتضيه سلامتها والمحافظة على كيانها وسيادتها. وذلك مثل ضرورة الحرب تفرض على الأمة، فيجوز لها ما لا يجوز في الظروف العادية، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حصار يهود بني النضير، من قطع نخيلهم وتحريقها، حتى يجبرهم على التسليم بأقل الخسائر الممكنة"8.

ثامناً- أن يفعل ما يفعله تحت ضغط الضرورة وقهرها، لا رغبة في الإثم، ولا ابتغاء للشهوة، ولا عدواناً على أحد، كما لا يعدو قدر الضرورة. وهذا ما جعل الفقهاء يقيدون الإباحة في أحوال الاضطرار بقدر الضرورة لا أكثر.

تاسعاً- إذا زالت الضرورة رجع المحرم محرماً. لأن هذا الحكم الاستثنائي هو في حالة الضرورة، وأما في حالة الاختيار فلا. فلا يجوز للإنسان أن يتمادى في ذلك.

عاشراً: أن الثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة، فلا يتعداها.

عباد الله:

هذه الأحكام الشرعية في الضرورات ينبغي فهمها حتى يقدم الإنسان على كل أمر من أمور حياته وهو على علم وبصيرة، نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً وفهماً وحُكماً، إنه على كل شيء قدير. 

 


 


1 – تفسير البغوي جزء 1- صفحة 402   

2 – في ظلال القرآن – (ج 1 / ص 128)

3 – تفسير ابن كثير جزء 2-صفحة 779 

4 – نقلاً عن موقع إسلام أون لاين، بتصرف.

6 – أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج 9/ ص 356) وفي معرفة السنن والآثار(ج 15/ ص 273)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/50): رواه الطبراني ورجاله ثقات.

7 – الاستذكارجزء 5- صفحة 307   

8 – عن موقع إسلام أو لاين، بتصرف