وجود جماعتين في مسجد واحد ووقت واحد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه،، أما بعد:
فإن صلاة الجماعة لها فضل عظيم وأجر كبير عند الله تعالى، ولها فوائد وثمرات اجتماعية متعددة، ولو لم يكن فيها إلا اجتماع الناس في مسجد واحد كل يوم خمس مرات يتصافحون ويتعارفون ويتناصحون لكفى بذلك فائدة وثمرة..
ومن محافظة الإسلام على جمع الكلمة أنه ألزم الناس بهذه الشعيرة العظيمة، وجعلها من الواجبات التي يأثم تاركها، ولا ندخل هنا في خلاف العلماء في حكمها، إنما الذي يعنينا أنهم متفقون على عظمتها ومكانتها في الإسلام، ونبل أهدافها ومقاصدها..
ولا شك أن اجتماع الناس على إمام واحد في مسجدهم أقرب إلى ألفة القلوب والتحام الصف، والإحساس بالوحدة الإسلامية التي تبتدئ من المسجد,,
وبين أيدينا مسألة من مسائل الجماعة، وهي الحكم في تعدد الجماعات في مسجد واحد ووقت واحد، ما رأي العلماء في ذلك؟
ولا بد من التفريق بين إعادة الجماعة في نفس المسجد لمن تأخر عن الجماعة الأولى، وبين هذه المسألة، فمسألتنا هذه يركز فيها على وجود جماعتين في وقت واحد وفي نفس المسجد.
سئل الشيخ/ عطية صقر، في شهر مايو عام 1997م عن حكم تعدد الجماعة في وقت واحد وفى مسجد واحد؟
فأجاب:
جاء في تفسير القرطبي 8 / 257 عند الكلام على مسجد الضرار الذي يفرق بين جماعة المسلمين أن الإمام مالكاً قال: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافا لسائر العلماء. وقد روي عن الشافعي المنع، حيث كان تشتيتا للكلمة.
وجاء في فقه المذاهب الأربعة "نشر وزارة الأوقاف المصرية" عن تكرار الجماعة في المسجد الواحد أن الحنابلة قالوا: إذا كان الإمام الراتب يصلي بجماعة فيحرم على غيره أن يصلي بجماعة أخرى وقت صلاته، كما يحرم أن تقوم جماعة قبل صلاة الإمام الراتب، بل لا يصح صلاه جماعة غير الإمام الراتب في كلتا الحالتين، ومحل ذلك إذا كان بغير إذن الإمام الراتب، أما إذا كان بإذنه فلا يحرم.
والشافعية قالوا: تكره إقامة الجماعة في مسجد بغير إذن إمامه الراتب مطلقا، قبله أو بعده أو معه، إلا إذا كان المسجد مطروقا أو ليس له إمام راتب أو له وضاق المسجد عن الجميع أو خيف خروج الوقت، وإلا فلا كراهة.
والمالكية قالوا: تحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب، لأن القاعدة عندهم أنه متى أقيمت الصلاة للإمام الراتب فلا يجوز أن تصلى صلاة أخرى، فرضا أو نفلا، لا جماعة ولا فرادى. ويتعين على من في المسجد الدخول مع الإمام إذا كان لم يصل هذه الصلاة المقامة أو صلاها منفردا.
أما إذا كان قد صلاها جماعة فيتعين عليه الخروج من المسجد لئلا يطعن على الإمام.
وإذا وجد بمسجد واحد أئمة متعددة مرتبون، فإن صلوا في وقت واحد حرم، لما فيه من التشويش، وإذا ترتبوا، بأن يصلى أحدهم فإذا انتهى من صلاته صلى الآخر وهكذا فهو مكروه على الراجح".1
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي: "قال المالكية: يكره تكرار الجماعة في مسجد له إمام راتب، وكذلك يكره إقامة الجماعة قبل الإمام الراتب، ويحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب. والقاعدة عندهم: أنه متى أقيمت الصلاة مع الإمام الراتب، فلا يجوز إقامة صلاة أخرى فرضا أو نفلا، لا جماعة ولا فرادى. ومن صلى جماعة مع الإمام الراتب، وجب عليه الخروج من المسجد، لئلا يؤدي إلى الطعن في الإمام. وإذا دخل جماعة مسجدا، فوجدوا الإمام الراتب قد صلى، ندب لهم الخروج ليصلوا جماعة خارج المسجد، إلا المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى)، فيصلون فيها فرادى، إن دخلوها؛ لأن الصلاة المنفردة فيها أفضل من جماعة غيرها.
وإذا تعدد الأئمة الراتبون، بأن يصلي أحدهم بعد الآخر، كره على الراجح. ويكره تعدد الجماعات في وقت واحد، لما فيه من التشويش.
ولا يكره تكرار الجماعة في المساجد التي ليس لها إمام راتب".
وذكر عن الشافعية القول بأنه: "يحرم إقامة جماعة أخرى أثناء صلاة الإمام الراتب، ولا تصح الصلاة في كلتا الحالتين. وعلى هذا فلا يحرم ولا تكره الجماعة بإذن الإمام الراتب؛ لأنه مع الإذن يكون المأذون نائبا عن الراتب، ولا تحرم ولا تكره أيضا إذا تأخر الإمام الراتب لعذر، أو ظن عدم حضوره، أو ظن حضوره ولم يكن يكره أن يصلي غيره في حال غيبته".2
ويرى الحنابلة حرمة إقامة جماعة في وقت واحد مع جماعة الإمام الراتب، وهكذا اتفقوا مع الشافعية والمالكية على التحريم، وعند الأحناف الكراهة.. والصحيح التحريم، للأدلة الآتية:
1 – قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) سورة التوبة.
فكل ما يضر جماعة المسلمين يحرم، فكما أن مسجد الضرار كان قصده التفريق، فإن إقامة جماعة ثانية في نفس المسجد ونفس الوقت إضرار بالجماعة الأم، التي يقيمها الإمام الراتب، وهي عين التفريق بين الناس، وما شرعت الجماعة إلا للاجتماع، وهذا التعدد في نفس الوقت ونفس المكان فرقة ظاهرة.
2- ولأن تكرار الجماعة بالمسجد في وقت واحد بأئمة متعددين: ضار بالمسلمين، وبيان هذا الضرر ما قاله ابن العربي: "فيه تشتيت للكلمة، وإبطال لحكمة تأليف القلوب، وجمع الكلمة على الطاعة، وعقد الذمام، والأنس بالمخالطة، وذريعة لوقوع الخلاف وبطلان النظام"..
ولا بأس هنا من نقل كلام ابن عابدين رحمه الله في هذا الموضوع، قال: "وقد ألف جماعة من العلماء رسائل في كراهة ما يفعل في الحرمين الشريفين وغيرهما من تعداد الأئمة والجماعات، وصرحوا بأن الصلاة مع أول إمام أفضل، ومنهم صاحب المنسك المشهور العلامة الشيخ رحمة الله السندي تلميذ المحقق ابن الهمام.
فقد نقل عن العلامة الخير الرملي في باب الإمامة أن بعض مشايخنا سنة إحدى وخمسين وخمسمائة أنكر ذلك منهم الشريف الغزنوي، وأن بعض المالكية في سنة خمسين وخمسمائة أفتى بمنع ذلك على المذاهب الأربعة، ونقل عن جماعة من علماء المذاهب إنكار ذلك أيضا. اهـ.
لكن ألف العلامة الشيخ إبراهيم البيري شارح الأشباه رسالة سماها "الأقوال المرضية" أثبت فيها الجواز وكراهة الاقتداء بالمخالف، لأنه وإن راعى مواضع الخلاف لا يترك ما يلزم من تركه مكروه مذهب: كالجهر بالبسملة، والتأمين، ورفع اليدين، وجلسة الاستراحة، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في القعدة الأولى، ورؤيته السلام الثاني سنة، وغير ذلك مما تجب فيه الإعادة عندنا أو تستحب، وكذا ألف العلامة الشيخ علي القاري رسالة سماها (الاهتداء في الاقتداء) أثبت فيها الجواز، لكن نفى فيها كراهة الاقتداء بالمخالف إذا راعى في الشروط والأركان فقط".3
والصحيح الحرمة وليس الكراهة فقط، كما تقدم بيانه.
وقال في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج4:
"وتكره إقامة جماعة بمسجد غير مطروق له إمام راتب من غير إذنه قبله أو بعده أو معه، فإن غاب الراتب سن انتظاره، ثم إن أرادوا فضل أول الوقت أم غيره، وإلا فلا إلا إن خافوا فوت كل الوقت، ومحل ذلك حيث لا فتنة، وإلا صلوا فرادى مطلقا، أما المسجد المطروق فلا يكره فيه تعدد الجماعات ولو كان له إمام راتب ووقع فيه جماعتان معا كما أفتى الوالد رحمه الله تعالى وهو مفهوم بالأولى من نفيهم كراهة إقامة جماعة فيه قبل إمامه، وشمل ذلك قول التحقيق لو كان للمسجد إمام راتب وليس مطروقا كره لغير إمام إقامة الجماعة فيه، ويقال إلا إن أقيمت بعد فراغ الإمام، وإلا فلا، وما صرح به في التتمة من كراهة عقد جماعتين في حالة واحدة محله في غير المطروق، فإن أكثرهم صرح بكراهة القبلية والبعدية وسكت عن المقارنة".
إذا فأقل ما قيل في تعدد جماعتين في مسجد واحد ووقت واحد الكراهة، وإن كان الأكثرية على التحريم، وهو الصحيح، فإن كل وسيلة إلى تفريق الكلمة محرمة وليست مكروهة فحسب، وما شرعت صلاة الجماعة إلا للمِّ الشمل وتوحيد الكلمة..
نسأل الله أن يجمع أهل الحق على توحيد الكلمة والصف، وأن يزيل عنهم أسباب الخلاف والشقاق..
والله المستعان، وهو المأمول في كل حال ومآل..