هل يأمر الفساق بالمعروف وينهون عن المنكر؟!

هل يأمر الفساق بالمعروف وينهون ع

 

هل يأمر الفساق بالمعروف وينهون عن المنكر؟!

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

عباد الله:

من المعلوم أنه يجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر إما على التعيين أو الكفاية، فلا بد من إنكار المنكر بصدق وجد وإعلان مهما أمكن ذلك، ولكن هل يجب على الذين يفعلون المنكر أن ينكروا المنكر ويأمروا بالمعروف؟!

يقول في ذلك الإمام ابن عطية – رحمه الله تعالى -: "والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف، وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه؛ ففرض عليه الإنكار بقلبه، وألا يخالط ذا المنكر.

وقال حذاق أهل العلم: "ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً".

وقال بعض الأصوليين: "فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً، واستدل قائل هذه المقالة بقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ(78-79) سورة المائدة؛ لأن قوله يَتَنَاهَوْنَ وقوله فَعَلُوهُ يقتضي اشتراكهم في الفعل، وذمهم على ترك التناهي، والأصل في ذلك أن كل مكلف مطالب بفعل الخير، وبالأمر به، ومطالب بترك الشر وبالنهي عنه، فهذه أربعة أمور لا بد منها، ولا يسقط التقصير ببعضها البعض الآخر.

وكما أن للفاسق القيام بتغيير المنكر الأكبر وهو الكفر و الشرك بالدعوة إلى الإسلام، والجهاد في سبيل الله – بالإجماع – فكذلك الحال في الاحتساب بتغيير المنكرات التي دون ذلك.

فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر، ولهذا يقول سعيد بن جبير: "لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر"، وقال مالك: "ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟".

أيها الناس:

من الناس من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متأولاً قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(44) سورة البقرة، وهذا تأويل غير صحيح؛ إذ ليس المراد ذمهم لأنهم أمروا بالبر ولم يفعلوه، بل ذمهم على مجرد الترك مع ما عندهم من العلم1.

ولا يعارض هذا حديث أسامة بن زيد – رضي الله تعالى عنه – أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ)2.

فإن الجمع بين هذا وهذا: أن الأولى والأجدر والأوجب على الآمر أن يمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه، وهذه سنة الرسل – عليهم السلام – كما قال شعيب – عليه السلام -: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ (88) سورة هـود، وهذا أليق بحال الداعي، وأقرب للقبول، وأدعى للاستجابة.

ولا يعني هذا أن مواقع المنكر معفي من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا أنه لا يأمر ولا ينهى إلا من كان سالماً من المعاصي؛ لأن ذلك يستلزم إبطال الأمر والنهي3.

وايم الله إنها لمكافأة عجيبة للعصاة أن يعفوا من مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حين يؤاخذ بذلك المطيعون، وقد قيل:

لئن لم يعظ في الناس من هو مذنب   ***  فمن يعظ العاصين بعد محمد

بل يجب على المواقع للمعصية – كغيره – أن يأمر وينهى شريطة أن يكون أمره بجد وصدق لا يلتبس به استخفاف ولا سخرية، كأن يقول لغيره مثلاً: إنك أقدر مني على ترك المعصية، وأقوى عزيمة، والمعينون لك على ذلك كثير، ولا زلت في أول طريق الانحراف، فدع ما أنت فيه قبل أن تتوغل ويعز عليك الرجوع، ومثله إذا كان والياً كلية أو جزئية فإنه يجب عليه منع الناس من الوقوع في المنكرات، ونهيهم عنها، والحيلولة بينهم وبينها، ولو كان هو مواقعاً لها.

أما من بان من حاله أن أمره ونهيه على سبيل النفاق والرياء والمخادعة، وإظهار شي وإبطان خلافه فلا شك في أنه آثم مأزور؛ لأن أمره ونهيه حينئذ لم يكن امتثالاً الحكم الشرع الذي أوجب عليه الأمر والنهي بل كان خداعاً وتلبيساً ونفاقاً.

وكذلك الناهي على سبيل السخرية والاستخفاف ممن يظهر من ملابسات حاله ذلك، فهو آثم بل قد يكون فعله كفراً لأنه استهزاء بشرع الله.

ولا يثنيه على أحد حديث المعذب في حديث أسامة إذ يحتمل أن يكون عذابه لمقارفته المنكر التي كان ينهى الناس عنها، وتركه الواجبات التي كان يأمر الناس بها وليس لذات الأمر والنهي، ويحتمل أنه كان يأمر وينهى على سبيل النفاق والرياء والمخادعة، وإظهار غير ما يبطن، أو على سبيل السخرية والاستخفاف4.

نسأل الله – جل وعلا – أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف القائمين به، الناهين عن المنكر المجتنبين له، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 تفسير ابن كثير (1/124).

2 رواه البخاري (3094) ومسلم (2989).

3 انظر: فتح الباري.

4  مستفاد من كتاب سلسلة الغرباء لسلمان بن فهد العودة أثابه الله.