للمسبوق في صلاة الجنازة

للمسبوق في صلاة الجنازة

للمسبوق في صلاة الجنازة

الحمد لله الذي كتب الموت على كل مخلوق، وتفرد بالبقاء والقهر والملك فهو رازق وغيره مرزوق، وصلى الله على نبيه محمد الصادق المصدوق، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فصلاة الجنازة من الواجبات الكفائية، وقد رتب الشرع على فعلها الأجر العظيم، ففي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ وَلَمْ يَتْبَعْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ تَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ) قيل: وما القيراطان؟ قال: (أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ).(1)

لكن من فاتته صلاة الجنازة أو سُبق بتكبيراتها فهل له قضاؤها أم ماذا يعمل؟

يقول ابن قدامة: "يستحب للمسبوق في صلاة الجنازة قضاء ما فاته منها، وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين وقتادة ومالك والثوري والشافعي وإسحق وأصحاب الرأي؛ لقوله -عليه السلام-: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)(2) وقياساً على سائر الصلوات.

ويكون القضاء على صفة الأداء لما ذكرنا، فعلى هذا إذا أدرك الإمام في الدعاء تابعه فيه، فإذا سلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة، ثم كبر وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم كبر وسلَّم، وقال الشافعي: متى دخل المسبوق في الصلاة ابتدأ الفاتحة ثم أتى بالصلاة في الثانية، ووجه الأولى أن المسبوق في سائر الصلوات يقرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة على صفة ما فاته، فينبغي أن يأتي ها هنا بالقراءة على صفة ما فاته قياساً عليه. وقال الخرقي: يقضيه متتابعاً، وكذلك روي عن أحمد وحكاه عن إبراهيم، قال: يبادر بالتكبير متتابعاً، لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال: لا يقضي فإن كبر متتابعاً فلا بأس ولم يعرف له مخالف في الصحابة فكان إجماعاً، وكذا قال ابن المنذر: يقضيه متوالياً، وقال القاضي وأبو الخطاب: إن رفعت الجنازة قبل إتمام التكبير قضاه متوالياً، وإن لم ترفع قضاه على صفته كما سبق.(3)

ثم قال ابن قدامة في شرحه: "مسألة: (فإن سلم ولم يقضه فعلى روايتين) إحداهما: لا تصح وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لما ذكرنا من الحديث والمعنى، والثانية تصح، اختارها الخرقي لما ذكرنا من حديث ابن عمر. وقد روي عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله إني أصلي على الجنازة ويخفى علي بعض التكبير؟ قال: "ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك" وهذا صريح، ولأنها تكبيرات متواليات حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها كتكبيرات العيد. وحديثهم ورد في الصلوات الخمس بدليل قوله في صدر الحديث "فلا تأتوها وأنتم تسعون" وفي رواية: سعى في جنازة سعد حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فعلم أنه لم يرد بالحديث هذه الصلاة، والقياس على سائر الصلوات لا يصح لأنه لا يقضي في شيء من الصلوات التكبير المنفرد ويبطل بتكبيرات العيد.

(فصل) إذا أدرك الإمام بين تكبيرتين فعن أحمد أنه ينتظر الإمام حتى يكبر معه، وهو قول أبي حنيفة والثوري وإسحق؛ لأن التكبيرات كالركعات، ثم لو فاتته ركعة لم يتشاغل بقضائها كذلك التكبيرة، والثانية يكبر ولا ينتظر وهو قول الشافعي لأنه في سائر الصلوات إذا أدرك الإمام كبر معه ولم ينتظر، وليس هذا اشتغالاً بقضاء ما فاته، وإنما يصلي معه ما أدركه فيجزيه ذلك كالذي يتأخر عن تكبير الإمام قليلاً، وعن مالك كالروايتين. قال ابن المنذر:

سهل أحمد في القولين جميعاً، ومتى أدرك الإمام في التكبيرة الأولى فكبر وشرع في القراءة، ثم كبر الإمام قبل أن يتمها فإنه يكبر ويتابعه ويقطع القراءة كالمسبوق في بقية الصلوات إذا ركع الإمام قبل إتمامه القراءة.

(مسألة) (ومن فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إلى شهر) من فاتته الصلاة على الجنازة فله أن يصلي عليها ما لم تدفن، فان دفنت فله أن يصلي على القبر إلى شهر، هذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن أبي موسى وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، وهو مذهب الأوزاعي والشافعي. وقال النخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة: لا تعاد الصلاة على الميت إلا للولي إذا كان غائباً ولا يصلى على القبر إلا كذلك، ولو جاز ذلك لصلي على قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في جميع الاعتصار. ولنا: ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلاً مات فقال: "فدلوني على قبره" فأتى قبره فصلى عليه. متفق عليه. وعن ابن عباس أنه مر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه. قال أحمد: ومن يشك في الصلاة على القبر يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من ستة وجوه كلها حسان. ولأن غير الولي من أهل الصلاة فسنت له الصلاة كالولي، وإنما لم يصل على قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا يصلى على القبر بعد شهر. (فصل) ولا يصلى على القبر بعد شهر ويصلى قبله. وبهذا قال بعض أصحاب الشافعي. وقال بعضهم يصلى عليه أبداً واختاره ابن عقيل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على شهداء أحد بعد ثماني سنين. حديث صحيح.

وقال بعضهم: يصلى عليه ما لم يبل جسده، وقال أبو حنيفة: يصلي عليه الولي خاصة إلى ثلاث. وقال إسحق: يصلي عليه الغائب إلى شهر، والحاضر إلى ثلاث. ولنا: ما روى سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي -صلى الله عليه وسلم- غائب، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر. قال أحمد: أكثر ما سمعت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على أم سعد ابن عبادة بعد شهر، ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت أشبهت الثلاثة أو كالغائب. وتجويز الصلاة عليه مطلقاً باطل بأن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يصلى عليه الآن إجماعاً، وكذلك التحديد ببلى الميت لكونه -عليه السلام- لا يبلى، فان قيل: فالخبر دل على الصلاة بعد شهر فكيف منعتموه. قلنا: تحديده بالشهر يدل على أن صلاته -عليه الصلاة والسلام- كانت عند رأس الشهر ليكون مقارباً للحد، وتجوز الصلاة بعد الشهر قريباً منه لدلالة الخبر عليه، ولا يجوز بعد ذلك لعدم وروده فيه.4

الخلاصة: نخلص إلى أن العلماء متفقون على استحباب قضاء ما فات المصلي من صلاة الجنازة سواء داخلها أو بعد قضاء الصلاة، وأنهم اتفقوا على أن الصلاة عليه جائزة بعد وفاته بأيام، وقد حددها بعضهم بشهر والبعض بأكثر. والخلاف في مسائل فرعية وهي: هل يصلى عليه أكثر من شهر، إلى أبد الآباد، وهل يقضي الصلاة فيبدأ بالأول فالأول من التكبيرات وهو مع الإمام أم يتابع الإمام في بقية التكبيرات ثم يقضي ما فاته.. ونحو ذلك، وعلى المسلم أن يتفقه في دين الله تعالى ليؤدي الشرائع على وجهها الصحيح.

وينبغي على المسلم الحرص على صلاة الجنازة لفضلها، ولأن فيها رحمة للميت ودعاء له بالمغفرة والرضوان والعتق من النيران، والتخفيف عنه في القبر، ومعلوم ما للصلاة على الميت من تذكر للموت والمصير النهائي من هذه الحياة الدنيا والانتقال إلى حياة أخرى يحاسب فيها العبد على كل ما قدم..

نسأل الله أن يرحمنا في الدنيا والآخرة.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 رواه مسلم.

2 رواه البخاري ومسلم وأهل السنن الأربعة وأحمد وغيرهم.

3 الشرح الكبير لابن قدامة (2/352-353).

4 الشرح الكبير، لابن قدامة (ج 2 / ص 352-354).