اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه

اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه

اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه

عبدالله قهبي

عباد الله : من حال لحال يلم بالمؤمن مصاعب ومتاعب من متاعب الحياة الدنيا، تلك الحياة القاسية التي يعيش فيها المؤمن بين الكد والكبد يكابد على لقمة عيش يعف بها نفسه ويطعم بها رعيته ، ولنا من هذه الحياة قصة ، قصة لمؤمنة تقية نقية ، ضاقت عليها الأرض بمن فيها ، فخارت قواها وضعفت عزيمتها فلم تجد لقمة عيش تسد به رمقها وجوعها، والفقر كفر ، يذهب بلب العبد وفكره وعمره ،لكن الله يقدر ويلطف ويبتلى من شاء من عباده المتقين ليرفع لهم الدرجات ويحط عنهم السيئات ، لعلمه سبحانه أن رفعتهم في الآخرة ، لن تكون إلا بما يقدر عليهم من أقداره في هذه الحياة ، لينعموا بعد ذلك بقربه وكلامه ورؤيته في جنان الخلد ،قال صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع ) صححه الالباني رحمه الله ، فهنيئا لمن صبر وظفر ، وهنيئا لمن وفق وتجاوز محنة البلاء بالخوف من رب الأرض والسماء ، قال تعالى { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } (126) التوبة ، والبلاء سنة من سنن الله في خلقه ، يقول الحق سبحانه {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (4) سورة البلد ، ويقول سبحانه { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } (155) البقرة .

 عباد الله : لعلكم تستذكرون في أذهانكم ما أوحى الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من قصة أصحاب الغار التي رواها البخاري في صحيحه ، تلك القصة التي نستلهم منها موقفا عظيما لامرأة مؤمنة عظيمة ، ضاقت عليها الارض بما رحبت وضاقت عليها نفسها حتى كاد الجوع يهلكها وقد طبلت مرارا عون ابن عمها فأبى عليها إلا بالمساومة على نفسها ،كان يحبها حبا شديدا ،وكان يراودها عن نفسها فتأبى عليه خوفا من الجبار جل جلاله ، وحين ضاقت بها الدنيا وأبى أن يمد يد العون لها إلا بتمكينه منها ، مكنته من نفسها مضطرة للقمة عيش تدفع به جوعها وتسد به رمقها ، حتى إذا قعد بين يديها ورجليها دارت بها الخواطر والافكار ، خوفا من العزيز الجبار ، تذكرت قول الله عز وجل { َسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } (108) النساء ، تحاملت على نفسها وأغمضت عيناها ،لا تريد أن ترى شيئا يغضب الله ، لا تريد أن يراها الله فيما نهاها عنه ، لحظات حرجة مرت بها وكأن صوتا يدوي في أذنها وينادي ويقول {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } (32) الاسراء ، ففاقت من غفلتها وانتفضت من ضعفها وعوزها ولسان حالها يقول ، كيف أعصي الجبار وهو الذي يطعمنى ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ، كيف أعصيه وأمره بين الكاف والنون ،لا والله لن أعصيه وللموت جوعا خير لي وابقى من الموت شبعا على فاحشة ساءت سبيلا ، كيف أتلبس بالمعصية فيلبسنى الله لباس الذل والشقاء قال تعالى { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء (18) الحج ، أليس من شقاء المعصية ظلمة في القلب وظلمة في القبر وقتر في الوجه وبغضا في قلوب الخلق وعسر في الرزق ومحق في بركة العمر والأهل لا لن أعصيك ياخالقي ورازقي ومولى كل صالح من ولي وتقي كيف أعصيك { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الذين آمنوا وكانوا يتقون } (62) يونس .

عندها أخرجت من فؤادها كلمة ملتهبة ملفوفة بالخوف من الله والخشية من لقاء الله ، قذفتها كالشهاب الحارق لتدوي في أذن ابن عمها المراود لها المكره لها فقالت : ( إتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ) رواه البخاري .

 كلمة عظيمة خرجت من قلب ملئ بالخوف من الله خرجت من قلب يغلي ويحترق ألما وخشية من الله ، خشية أن تقترف أمرا لا يرضى الله ، خشية أن تقترف ذنبا يكون فيه شقاء عمرها ، ، قذفت بكلمة ملتهبة أحرقت بها كل شهوة ثارت بجسد بن عمها المحب والعاشق لها، أحرقت الحب الذي كان يحمله طوال عمره ، ويا للعجب كيف كان وقع هذه الكلمة على ابن عمها حين قالت ،( إتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ) لقد قالت كلمة أماتت فيه كل شهوة وكشفت عن بصرة كل غشاوة، كلمة خرجت لعنان السماء ليستجيب لها رب الارض والسماء َمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} (62) سورة النمل  ، استجاب منجى المتقين وكاشف ضر الصالحين {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (2) سورة الطلاق {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) سورة الطلاق  ، فخارت قواه وذهبت شهوته عندما عظم في قلبه مراقبة الله وخشيته ، ولسان حاله يقول{ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (23) سورة يوسف ، ومن خاف الله في جوارحه فاز فوزا عظيما ونال من الجنة سندسا وحريرا {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (40،41) سورة النازعات ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (2) سورة الأنفال  ،وقال سبحانه {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (135) سورة آل عمران  ، ذكروا مقامهم بين يدي الله ، ذكروا عقاب الله ، ذكروا وحشة القبر وهول المطلع والحشر ، هؤلاء هم المتقون لله يتقون الله في أبصارهم وأسماعهم وجوارحهم خوفا من الله وخوفا من عذابه ، وإن لم نتق الله ونكون من المتقين فإنا هالكون وإلى ربنا راجعون ، قال سبحانه {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (17) سورة المزمل، تدرون لماذا نطالب بتقوى الله اسمعوا الجواب من شديد العقاب وسريع العقاب،  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (1)(2) سورة الحـج  ، فأين هؤلاء ممن إذا قيل له اليوم اتق الله من أكل الربا ، من الوقوع في الشبهات من ترك الصلوات من ومن ـ أخذته العزة بالإثم ، قال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} (206) سورة البقرة ، أيها الأحبة، إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته.