صلاة الجنازة في المسجد

صلاة الجنازة في المسجد

صلاة الجنازة في المسجد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

سنتكلم في هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- على مسألة حكم الصلاة على الجنازة في المسجد. فنقول وبالله التوفيق:

ذهب الجمهور من أهل العلم إلى جواز الصلاة على الجنازة في المسجد، ومنهم الشافعي وأحمد، وإسحاق، لحديث عائشة أنها أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: “ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى -رسول الله صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد”1 وهو في صحيح مسلم.

قال النووي: “وفي هذا الحديث دليل للشافعي والأكثرين في جواز الصلاة على الميت في المسجد، وممن قال به أحمد وإسحاق، قال ابن عبد البر: ورواه المدنيون في الموطأ عن مالك، وبه قال ابن حبيب المالكي”2.

ولأنها صلاة كسائر الصلوات (دعاء وصلاة) والمسجد أولى بها من غيره؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)، بل قالت الشافعية: تندب الصلاة على الجنازة في المسجد، لأنه خير بقاع الأرض. ولأن  الصحابة قد صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد، بدون إنكار من أحد.

قال العظيم آبادي: “قال الخطابي: “وقد ثبت أن أبا بكر وعمر صلي عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، ففي تركهم إنكاره دليل على جوازه”3. وقال في موضع آخر: “وقد روى ابن أبي شيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيباً صلى على عمر في المسجد. زاد في رواية: “ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر” وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك”4.

وبوب البخاري في صحيحه: (باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد) وكأن الأمرين يستويان عنده، إلا أنه أخرج حديث الصلاة في المصلى فقط، ولم يخرج حديث الصلاة في المسجد. وكأنه يفضل الصلاة على الجنازة في المصلى.

وجمهور القائلين بجواز الصلاة على الجنازة في المسجد يقولون أنها في المصلى أولى إلا الشافعية الذين عكسوا ذلك.

قال السندي: “نعم ينبغي أن يكون الأفضل خارج المسجد بناء على الغالب أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي خارج المسجد، وفعله في المسجد كان مرة أو مرتين، والله أعلم”5 . والبخاري قد ذكر حديث  أبي هريرة -رضي الله عنه- لما مات النجاشي صاحب الحبشة، إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (استغفروا لأخيكم) وصف بهم بالمصلى فكبر عليه أربعاً. وحديث ابن عمر -رضي الله عنه-  أن اليهود جاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد”. وحديث جابر قال: “مات رجل منا، فغسلناه.. ووضعناه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله بالصلاة عليه  فجاء معنا…فصلى عليه..”6

قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: “…وبهذا الجمع التقى حديث الترجمة مع حديث عائشة من حيث دلالة كل منهما على إباحة الصلاة في المسجد، و أما كون الأفضل الصلاة خارج المسجد، فهذا أمر لا يشك فيه من تجرد عن الهوى و التعصب المذهبي، لثبوت كون ذلك هو الغالب على هديه -صلى الله عليه وسلم- كما بينته في: “أحكام الجنائز” (ص 106-107) فلا التفات بعد هذا البيان إلى قول ابن حبان في:”الضعفاء” (1 / 366): “و هذا خبر باطل، كيف يخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن المصلي في الجنازة لا شيء له من الأجر، ثم يصلي هو -صلى الله عليه وسلم- على سهيل ابن البيضاء في المسجد؟”7. وقال في أحكام الجنائز: “لكن الأفضل الصلاة عليها خارج المسجد في مكان معد للصلاة على الجنائز، كما كان الأمر على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الغالب على هديه فيها”8.

وذهب بعض العلماء إلى عدم صحة الصلاة في المسجد، ومنهم أبو حنيفة والقول المشهور عن مالك. واستدلوا:

بحديث أبي هريرة في سنن أبي داود: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له)9. قال النووي: “وقال ابن أبي ذئب وأبو حنيفة ومالك على المشهور عنه: لا تصح الصلاة عليه في المسجد، لحديث في سنن أبي داود: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) ودليل الشافعي والجمهور حديث سهيل بن بيضاء، وأجابوا عن حديث سنن أبي داود بأجوبة:

أحدها: أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: “هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف”. والثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود: (ومن صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه)10 ولا حجة لهم حينئذ فيه. الثالث: أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه قال: (فلا شيء) لوجب تأويله على: (فلا شيء عليه) ليجمع بين الروايتين وبين هذا الحديث وحديث سهيل بن بيضاء، وقد جاء (له) بمعنى (عليه) كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(7) سورة الإسراء. الرابع: أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه. والله أعلم”11.

وأجاب الجمهور أيضاً على هذا الحديث بأنه معارض لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قالوا: ولم يظهر مخالف من الصحابة -رضوان الله عليهم- حين صلوا على عمر في المسجد؛ إذ لو ظهر لعلم، ثم إنه يكون إجماعاً بعد اختلاف فيرفع الخلاف السابق على فرض صحته.

أو أن الحديث “لبيان أن صلاة الجنازة في المسجد ليس لها أجر لأجل كونها في المسجد كما في المكتوبات، فأجر أصل الصلاة باق، وإنما الحديث لإفادة سلب الأجر بواسطة ما يتوهم من أنها في المسجد، فيكون الحديث مفيداً لإباحة الصلاة في المسجد من غير أن يكون لها بذلك فضيلة زائدة على كونها خارجه”12.

واستدل القائلون بعدم الجواز بما أورد ابن أبي شيبة في مصنفه من الروايات:

قال: “من كره الصلاة على الجنازة في المسجد” حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التؤمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) قال: وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تضايق بهم المكان رجعوا ولم يصلوا”. وحدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن كثير بن عباس قال: “لاعرفن ما صليت على جنازة في المسجد”.

حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التؤمة عمن أدرك أبا بكر وعمر أنهم كانوا إذا تضائق بهم المصلى انصرفوا ولم يصلوا على الجنازة في المسجد”13.

وقالوا: إن إنكار الصحابة على عائشة يدل على اشتهار العمل بخلاف ذلك عندهم، ويشهد لذلك خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى الفضاء (المصلى) للصلاة على النجاشي. وأجاب الجمهور: بأن ذلك لا يعد دليلاً على تحريم الصلاة على الجنازة في المسجد، وإنما خرج بهم إلى المصلى ليعلمهم أن صلاة الغائب كصلاة الحاضر في الأهمية.

وأجاب المانعون على حديث عائشة وصلاته -صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن بيضاء إما أنه -صلى الله عليه وسلم- كان معتكفاً فلم يتمكن من الخروج إلى المصلى يعني صلى في المسجد للضرورة، “وأجيب : بأن اعتكاف النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمسجد ليس دليلاً على أنه لم يصل على ابن بيضاء بالمسجد إلا للضرورة؛ إذ لو كانت الصلاة على الجنازة بالمسجد مكروهة، لبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك للناس؛ لأن تأخيره للبيان عن وقت الحاجة لا يجوز”14.

وقال المانعون: يحتمل أنه صلى في المسجد لأنه كان هناك مطراً. وأجيب: بأن قولهم أنه كان اليوم يوماً مطيراً فواقعة حال لا تعارض الحديث القولي.

وقال المانعون: يحتمل أن سهيلاً كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقاً. قال صاحب عون المعبود: “وحملوا الصلاة على سهيل بأنه كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقاً، وفيه نظر لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلي عليه”15

وقال المانعون: أن صلاته في المسجد كانت في أول الأمر فنسخت بخروجه إلى المصلى.

قال الطحاوي: فلما اختلفت الآثار في هذا الباب، احتجنا إلى كشف ذلك لنعلم المتأخر، فكان في حديث عائشة دليل أنهم تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تفعل فيه، حتى ارتفع ذلك من فعلهم، وذهبت معرفته على عامتهم”… إلى أن قال: النهي عنها وكراهيتها قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أيضاً وأطال، وحقق أن الجواز كان ثم نسخ”.16

قال في شرح معاني الآثار: “… فصار حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أولى من حديث عائشة -رضي الله عنها- لأنه ناسخ له. وفي إنكار من أنكر ذلك على عائشة -رضي الله عنها- وهم يومئذ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دليل على أنهم قد كانوا علموا في ذلك، خلاف ما علمت، ولولا ذلك لما أنكروا ذلك عليها”17.

والذين كرهوا الصلاة عليه في المسجد كرهوا إدخاله، ولو من غير صلاة.

والحنابلة أباحوها في المسجد إن لم يخش تلويثه، و إلا حرمت وحرم إدخاله ولو لغير الصلاة عليه. يقول ابن القيم: “ولم يكن من هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراتب الصلاة على الميت في المسجد، وإنما كان يصلى على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، وربما صلى أحيانا على الميت كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد”18.

وقالوا المانعون أيضاً: ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اتخذ مصلى، وكان في الغالب يصلي على الجنازة فيه. قال الحافظ في الفتح: “إن مصلى الجنائز كان لاصقاً بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- من ناحية جهة المشرق”19. وقال في موضع آخر: “والمصلى المكان الذي كان يصلى عنده العيد والجنائز، وهو من ناحية بقيع الغرقد”20.

واختلفوا في علة المنع:

فقيل العلة: أنها ميتة، “وقد زعم بعضهم أن سبب المنع في ذلك هو أن ميت بني آدم ميتة، وفيه ضعف، لأن حكم الميتة شرعي، ولا يثبت لابن آدم حكم الميتة إلا بدليل”21.

وقيل: خشية التلويث، فيكون من باب سد الذرائع، كما قال الإمام مالك، قال في منح الجليل:” إلا أن مالكاً -رضي الله تعالى عنه- لاحتراسه وحسمه للذرائع منع”22.

قال ابن مفلح: “قول المخالف يحتمل انفجاره بأنه نادر، ثم هو عادة بعلامة، فمتى ظهرت كره إدخاله المسجد، و إلا فلا، كما تدخل المرأة المسجد، وإن جاز أن يطرقها الحيض”23. وقيل: لأن المسجد بني لأداء المكتوبات، وتوابعها من النوافل والذكر، وتدريس العلم. وصلاة الجنازة في المسجد فيها إخراج المسجد عما جعل له من صلاة المكتوبات وتوابعها. لكن في هذا التعليل خفاء “إذ لا شك أن الصلاة على الميت دعاء وذكر، وهما مما بني له المسجد، و إلا لزم المنع عن الدعاء فيه، لنحو الاستسقاء والكسوف، مع أن الوارد في ذلك ما رواه مسلم أن رجلاً نشد في المسجد ضالة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له)24 فليتأمل”25.

ومما تقدم : يترجح القول بجواز صلاة الجنازة في المسجد، إذا لم يتضرر المسجد بهذه الجنازة، أو يتضرر من في المسجد بسببها، إما بقذارة أو رائحة أو منكرات. أو كان المسجد ضيقاً، وفي زمننا هذا أكثر الناس يصلون على الأموات في المساجد، وهذا لا شيء فيه. هذا ما تيسر جمعه في هذه المسألة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.  

 


 


1 – أخرجه مسلم – (ج 5 / ص 97)

2 – شرح النووي على مسلم – (ج 3 / ص 396)

3 – عون المعبود في شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي، (ج 7 / ص 175– 2776)

4 – عون المعبود – (ج 7 / ص 174)

5 – حاشية السندي على ابن ماجه – (ج 3 / ص 298)

6  أخرجه البخاري – (ج 5 / ص 95)

7 – السلسلة الصحيحة – (ج 5 / ص 350)

8 – أحكام الجنائز، للألباني (ج 1 / ص 106)

9 – أخرجه ابن ماجه – (ج 4 / ص 473 – 150) وأحمد – (ج 19 / ص 396 – 9353)

10 – أخرجه أبي داود – (ج 8 / ص 477 – 2776)

11 – شرح النووي على مسلم – (ج 3 / ص 396)

12 – السلسلة الصحيحة – مختصرة – (ج 5 / ص 462 –  2351) 

13 – أخرجه ابن أبي شيبة – (ج 3 / ص 243)

14 – العرف الشذي للكشميري – (ج 2 / ص 432)

15 – عون المعبود – (ج 7 / ص 174)

16 – حاشية رد المحتار – (ج 2 / ص 243)

17 – شرح معاني الآثار – (ج 2 / ص 368)

18 – زاد المعاد – (ج 1 / ص 481)

19 – فتح الباري لابن حجر – (ج 4 / ص 388)

20 – فتح الباري لابن حجر – (ج 19 / ص 243)

21 – بداية المجتهد – (ج 1 / ص 194)

22 –  منح الجليل شرح مختصر خليل – (ج 3 / ص 183)

23 – الفروع لابن مفلح – (ج 3 / ص 292)

24 – أخرجه مسلم – (ج 3 / ص 196 – 881 )

25 – حاشية رد المحتار – (ج 2 / ص 244)