الخصومات في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين… أما بعد:
فإن المساجد دُور عبادة وذكر، وتضرع وخضوع لله جل وعز شأنه، ومواضع تسبيح وابتهال وتذلل بين يدي الله, ورغبة فيما عنده من الأجر الكبير, {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (18) سورة الجن.
وهي مقام تهجد وترتيل لكتاب الله وحفظ له وغوص وراء معانيه، وتمعن لمفرداته واستنباط لأحكامه، واستخراج لمخزوناته ومكنوناته من بلاغة وبيان وإعراب وقصص وغيرها.
والمسجد مركز دعوة ومنبر توجيه، فكم نوَّر قلوباً وعمَّر أفئدة وأزال عنها أوضار الجاهلية وغبش المعاصي, وانتزع منها جذور الزيغ والضلال, وجعل منها بحول الله تعالى وقوته أجيالاً مؤمنة تقية نقية، مجاهدة صامدة، قانتة مطيعة، عمرت الأرض بالطاعة والخير، ونشرت الإسلام في آفاق واسعة ونواحٍ عديدة من المعمورة فكانت قرآناً يمشي على الأرض ينير للناس مناهج الحق ويهديهم سبل الرشاد، وللمسجد دور كبير في الإصلاح بين الخصوم, وحسن التوسط بينهم لرأب الصدع، وحل المشاكل وفصل النزاع، وتطييب القلوب.
كذلك التقاضي فيه جائز، والشفاعة فيه إلى صاحب الحق وقبولها من غير معصية، فالمسجد محكمة شرعية، ودار قضاء تنظر فيها القضايا ويفصل فيها ذلك الفصل الحاسم الذي يبتر المشاكسة ويقطع المخاصمة، ويقنع المتقاضيين بما يصدر في حق كل منهما؛ وقد قضى الشعبي وشريح وابن أبي ليلى في المسجد،بل ثبت في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ –رضي الله عنه- أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ, فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى: (يَا كَعْبُ) قَالَ: "لَبَّيْكَ يَا رَسُـولَ اللَّهِ" قَالَ: (ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا), وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ, أَيْ الشَّطْرَ, قَالَ: "لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ" قَالَ: (قُمْ فَاقْضِهِ)1،ففي هذا الحديث دلالة على جواز المخاصمة في المسجد في الحقوق والمطالبة بالديون.
أما ما ورد في غير هذا الموضع من إنكار عمر –رضي الله عنه- رفع الصوت في المسجد، فيدل أنهم رفعوا أصواتهم فيما لا يحتاجون إليه من اللغط الذي لا يجوز في المسجد، ولذلك بنى عمر البطحاء خارج المسجد؛ لينزهه عن الخنا والرفث، فسألهم إن كانوا من أهل البلد ممن تقدم العلم إليهم بإنكار رفع الصوت في اللغط فيه، فلما أخبراه أنهما من غير البلد عذرهما بالجهل.
وأما ارتفاع صوت كعب وابن أبى حدرد في المسجد، فلما كان على طلب حقٍ واجبٍ، لم يغير الرسول ذلك عليهم، ولو كان لا يجوز رفع الصوت فيه في حق ولا غيره لما ترك النبي -عليه الصلاة والسلام- بيان ذلك إذ هو مُعَلِّم وقد فرض الله تعالى عليه ذلك.
أما ما ورد من الأحاديث كحديث وائلة عند ابن ماجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ)2. وحديث مكحول رفعه إلى معاذ بن جبل ورفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ، وَحُدُودَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ، وَبَيْعَكُمْ، وَجَمِّرُوهَا يَوْمَ جَمْعِكُمْ، وَاجْعَلُوا عَلَى أَبْوَابِهَا مَطَاهِرَكُمْ)3. فقد أجيب بأن هذين الحديثين ضعيفان؛ فبقي الأمر على الإباحة من غير معارض. وقال العيني: "هذا الجواب لا يعجبني؛ لأن الأحاديث الضعيفة تتعاضد وتتقوى إذا اختلفت طرقها ومخارجها، والأولى أن يقال: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشاً، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش".
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا, وأن ينفعنا بما علمنا, وأن يوفق الله الجميع إلى سبيل الهدى، ويصلح الأعمال والمقاصد, إنه سميع مجيب, والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين4.