غزوة الطائف

غزوة الطائف

غزوة الطائف

الحمد لله وصلى الله على نبيه الصادق الأمين وأصحابه الأنصار والمهاجرين، وآله الطاهرين، والتابعين لهم بخير وإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

ففي أعقاب غزوة حنين في شوال من السنة الثامنة1 خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين يريد الطائف وقدم خالد بن الوليد على مقدمته، وقد كانت ثقيف راموا حصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم، وتهيؤوا للقتال، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قريباً من حصن الطائف، وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنبل رمياً شديداً كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحه، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، فيهم عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وسعيد بن العاص، ورمي عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ فاندمل الجرح ثم انتفض به بعد ذلك فمات منه، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف -اليوم-، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين-، وكان يصلي بين القبتين حصارَ الطائف كلَّه، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً، ونصب عليهم المنجنيق، فرمتهم ثقيف بالنبل فقُتل منهم رجال، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطع المسلمون قطعاً ذريعاً ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فتركها، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر) فخرج منهم بضعة عشر رجلاً منهم أبو بكرة نزل في بكرة فقيل أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف.

وقد جاء أن نفراً من الصحابة دخلوا تحت دبابة2، ثم زحفوا ليحرقوا جدار أهل الطائف، فأرسلت عليهم سكك الحديد محماة، فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلوا منهم رجالاً، فحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون3.

ولما مضت خمس عشرة من الحصار استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلي فقال: (ما ترى؟) فقال: ثعلبٌ في جُحرٍ إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك! فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب فأذن بالناس بالرحيل فضج الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاغدوا على القتال) فغدوا فأصابت المسلمين جراحات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا قافلون إن شاء الله)؛ فسروا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك4.

وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) فلما ارتحلوا واستقلوا قال: (قولوا: آيبون عابدون لربنا حامدون) وقيل: يا رسول الله ادع الله على ثقيف، فقال: (اللهم اهد ثقيفاً وأتِ بهم).5

وفي هذا الحدث درس تربوي عظيم في تقديم النقل على العقل، بمعنى أنه إذا ورد أمر الشرع في أمر ما فلا مجال لنظر عقلٍ ولا شيخ إطلاقاً بحجة التماس مصلحة الدعوة أو ترجِّيها، فيعلم نقص العقل وكمال الشرع، وهذا ما غاب عن كثير من أصحاب المناهج وأهل الأهواء والآراء، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}(36) سورة الأحزاب، وفي ما أنزل الله على نبيه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء، وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أبر الناس قلوباً به، وأحبهم إليه، وأطوعهم له، بل كما قال عروة بن مسعود يوم صلح الحديبية: وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ6، فرضي الله عنهم أجمعين.

وفي هذه المعركة يلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جدد في وسيلة الحرب وأسلوب القتال، فخالف ما عهده العرب من الكيفية المعروفة، وأتى بطرق لم تكن في حسبان أحد منهم، فاستخدامه للمنجنيق كاد أن يهدم جدار الحصن وأبراجه حين يرمي بالأحجار الثقيلة، وقد يرمي بالنار فتحرق الدور والجنود وهذا لم يكن في عهد العرب، وهو سلاح لاختراق الحصون الكبيرة والأبواب العظيمة، وقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه، فقال له سلمان الفارسي: يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم؛ فإنا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون وتنصب علينا، فنصيب من عدونا ويصيب منا بالمنجنيق وإن لم يكن المنجنيق طال الثواء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمل منجنيقا بيده، فنصبه على حصن الطائف، ويقال قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة ودبابتين7، وعلى كلٍّ فقد كان يرمى بالمنجنيق إلى داخل الحصن فدل ذلك على جواز نصب المنجنيق على الكفار، ورميهم به وإن أفضى إلى قتل من لم يقاتل من النساء والذرية8.

ونجد النبي صلى الله عليه وسلم قد استخدم الدبابة -وهي من الأسلحة القديمة على شكل بيت صغير تعمل من الخشب وتتخذ للوقاية من سهام الأعداء، عندما يراد نقض جدار الحصن، ويدخل فيها الجنود لنقب الجدار، ولا يضرهم ما يرمى عليهم من الأعلى فهي عليهم بسقفها وقاء.

ويلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحسك الشائك حول الحصن، ويعمل من خشبتين تسمران على هيئة الصليب، حتى تتألف منها أربعة شعب مدببة، وإذا رمي في الأرض بقيت شعبة منه بارزة تتعثر بها أقدام الخيل والمشاة، فتعطل حركة السير السريعة المطلوبة في ميدان القتال9.

ولكل متأمل في حياة القائد المحنك العظيم صلى الله عليه وسلم ملاحظة تواضعه واستشارته لأصحابه وقبوله رأيهم ومشورتهم استجابة لأمر الله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(159) سورة آل عمران، وفي هذه المعركة وقد نزل بأصحابه في مكان منكشف فرشقهم العدو بالنبال، جاءه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، إنا قد دنونا من الحصن فإن كان عن أمر سلمنا، وإن كان عن الرأي فالتأخر عن حصنهم. قال: فأَسكتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمرو بن أمية الضمري يحدث يقول: لقد طلع علينا من نبلهم ساعة نزلنا شيء الله به عليم كأنه رجل من جراد -وترسنا لهم- حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحباب فقال: (انظر مكاناً مرتفعاً مستأخراً عن القوم). فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف خارج من القرية فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتحولو10.

واستخدم النبي صلى الله عليه وسلم الحرب النفسية لما اشتدت المقاومة من أهل الطائف، حين أمر بتقطيع الأشجار وإحراق البساتين، كوسيلة ضغط عليهم، وليأخذ الحصار معناه، ولما رأى أنه قد بلغ من أثره في نفوسهم ما بلغ أمر بالكف عن ذلك، وبعد أن ناشدوه بالله والرحم، واستبدل النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة أخرى حيث نادى العبيد من ثقيف وأخبر أن من كان عبداً فنزل فلحق بالمسلمين فهو حر، وخرج ثلاثة وعشرون عبداً، وفي هذا رهبة للمشركين بخلخلة صفوفهم وزلزلتها من الداخل، حين تصدع فيها وحدتهم، وتنشق عصاهم.

وقد بدت ظاهرة غير أخلاقية من قِبل أحد الذين كانوا يدخلون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم -وكان ذلك مباحاً إذ لا حاجة له بالنساء، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول عليهن، كما ورد في الصحيح عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي مُخَنَّثٌ11، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الطَّائِفَ غَدًا، فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ)، قال ابن عيينة وقال ابن جريج: المخنث هيت، وهو محاصر الطائف يومئذ12.

وكان سبب إباحة دخول مثل هذا المخنث لأنه لا يفطن لشيء من أمر النساء مما يفطن له الرجال، ولا له إربة في ذلك13 فكان المنع من دخوله، ونفاه إلى حمراء الأسد حين علم النبي صلى الله عليه وسلم منه مثل ما قال، وأنه يطلع على عورات النساء، حرصاً على سلامة الأخلاق في المجتمع الإسلامي، وليت هذا الحكم مطبق على كثير من المؤنثين اليوم، إذن لامتلأت حمراء الأسد من هؤلاء الذين كثروا نتيجة لغزاة الفكر، ودعاة التحرر.

ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة، وكان فيها قسمة غنائم حنين، ولما فرغ من توزيع الغنائم وقسمتها أَهلَّ معتمراً منها، فأدى العمرة وانصرف.

وعقب هذه الأحداث كلها قفل النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار إلى المدينة وترك عتاب بن أسيد أميراً على مكة وعمره حينئذ عشرون عاماً، ورزقه كل يوم درهماً، فقام فخطب الناس فقال: أيها الناس: أجاع الله كبد من جاع على درهم! فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن14.

وهذه نهاية الغزوة المباركة، وكما سلف في ثنايا عرضها فقد حفلت بكثير من المشاهد العظيمة والأحداث التي لها أثر في النفوس، وتربية لها، من حياته صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.


 


1 صحيح البخاري: (13/218).

2 كانت الدبابة في الزمن الماضي تطلق على صندوق كبير من الخشب مفتوح من أسفله يحمله مجموعة من المقاتلين فوق رؤوسهم فيحتمون به من سهام الأعداء، ثم يقتربون من الحصون أو الهدف المحدد.

3 السيرة النبوية لابن كثير: (3/658).

4 أصل القصة في صحيح البخاري: (3981) وصحيح مسلم: (3329).

5 السيرة النبوية لابن كثير: (3/662)، الطبقات الكبرى لابن سعد: (2/158).

6 صحيح البخاري: (2529).

7 مغازي الواقدي: (1/928).

8 زاد المعاد: (3/436).

9 السيرة النبوية للصلابي: (785-786) ناقلاً عن الفن الحربي في صدر الإسلام للواء عبد الرؤوف عون: (195).

10 مغازي الواقدي: (1/926).

11 المخنث من الرجال: من يشبه خلقه النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك، فإن كان من أصل الخلقة لم يكن عليه لوم، وعليه أن يتكلف إزالة ذلك، وإن كان بقصد منه وتكلف له فهو المذموم، ويطلق عليه اسم مخنث سواء فعل الفاحشة أو لم يفعل، قال ابن حبيب: المخنث هو المؤنث من الرجال، وإن لم تعرف منه الفاحشة انظر: فتح الباري لابن حجر: (15/47).

12 صحيح البخاري: (3980).

13 فتح الباري لابن حجر: (15/47).

14 السيرة النبوية لابن كثير: (3/697)، والرحيق المختوم: (428)، وفقه السيرة للغزالي: (345).