حقاً على المتقين

من أحكام المتوفى عنها والمطلقة

من أحكام المتوفى عنها والمطلقة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ففي هذا الدرس من التفسير نتطرق -إن شاء الله- إلى ثلاث آيات من سورة البقرة ذكر الله عز وجل فيها بعضاً من أحكام المرأة المتوفى عنها زوجها والمطلقة.

يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ* كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} سورة البقرة (240) (241)(242).

 

شرح الآيات:

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي يُقبَضون؛ والمراد: الموت؛ و{مِنكُمْ} الخطاب لعموم الأمة؛ وليس خاصاً بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأن القرآن نزل للجميع إلى يوم القيامة؛ فالخطاب الموجود فيه عام لكل الأمة؛ إلا إذا دل دليل على الخصوصية؛ كما في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} سورة الحديد(10).

قوله تعالى: {وَيَذَرُونَ} أي يتركون؛ وهي معطوفة على قوله تعالى: {يتوفون}؛ و{أَزْوَاجًا} أي زوجات لهم.

قوله تعالى: {وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم} أي عهداً لأزواجهم؛ ولا تكون الوصية إلا في الأمر الذي له شأن وبه اهتمام {مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} أي إلى تمام الحول من موت الزوج؛ و{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي من الورثة الذين يرثون المال بعد الزوج؛ ومنه البيت الذي تسكن فيه الزوجة.

قوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ} أي خرج الزوجات من البيت قبل الحول؛ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا إثم عليكم {فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} أي مما يعرفه الشرع، والعرف، ولا ينكره..

قوله تعالى: {وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي ذو عزة، وحُكم، وحِكمة.

ثم قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} من ألفاظ العموم؛ لأن "ال" فيها اسم موصول؛ فيشمل كل المطلقات بدون استثناء؛ وهن من فارقهن أزواجهن؛ وسمي طلاقاً؛ لأن الزوجة قبله في قيد النكاح؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان)1 أي أسيرات؛ وقال تعالى عن امرأة العزيز: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} سورة يوسف(25)؛ و{سيدها} زوجها.

قوله تعالى: {مَتَاعٌ} أي ما تتمتع به من لباس وغيره. وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق بـ{متاع}؛ يعني: هذا المتاع مقيد بالمعروف – أي ما يعرفه الناس-؛ وهذا قد يكون مفسَّراً بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة(236)، أي المتاع على الموسر بقدر إيساره؛ وعلى المعسر بقدر إعساره.

قوله تعالى: {حَقًّا} مصدر منصوب على المصدرية عامله محذوف؛ والتقدير: نحقه حقاً؛ و"الحق" هنا بمعنى الحتم الثابت؛ و{عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي ذوي التقوى؛ و "التقوى" هي القيام بطاعة الله على علم وبصيرة؛ وما أحسن ما قاله بعضهم: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله؛ ولا يعني قوله تعالى: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} أنه لا يجب على غير المتقين؛ ولكن تقييده بالمتقين من باب الإغراء، والحث على لزومه؛ ويفيد أن التزامه من تقوى الله عزّ وجلّ؛ وأن من لم يلتزمه فقد نقصت تقواه.

ولما بيّن الله تعالى هذه الأحكام العظيمة المشتملة على الحكمة والرحمة امتن بها على عباده فقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي حدوده وحلاله وحرامه والأحكام النافعة لكم، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}أي لعلكم تعقلونها فتعرفونها وتعرفون المقصود منها، فإن من عرف ذلك أوجب له العمل بها.

بعض الفوائد المستفادة من الآيات:

1.     أن الزوجة تبقى زوجيتها حتى بعد الموت؛ لقوله تعالى: {ويذرون أزواجاً}.

2.     أنه يشرع للزوج أن يوصي لزوجته أن تبقى في بيته، وينفق عليها من تركته لمدة حول كامل؛ هذا ما تفيده الآية..

3.  أن الله –عز وجل- ذو رحمة واسعة حتى أوصى الزوج بأن يوصي لزوجته؛ مع أن الزوج قد جعل الله فيه رحمة لزوجته حين قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} سورة الروم(21)؛ ورحمة الله -عز وجل- لهذه الزوجة أعظم من رحمة الزوج لها.

4.  أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها أن تبقى في البيت أن تخرج، ولا تنفذ وصيته؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ لأن هذا شيء يتعلق بها، وليس لزوجها مصلحة فيه.

5.  أن على الرجال الإثم فيما إذا خرجت المرأة عن المعروف شرعاً؛ لقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ}.

6.  أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج عن المعروف في جميع أحوالها؛ و "المعروف" هو ما أقره الشرع والعرف جميعاً؛ فلو خرجت في لباسها أو مشيتها أو صوتها عن المعروف شرعاً فهي آثمة؛ وعلينا أن نردعها عن الخروج على هذا الوجه.

7.  إثبات العزة والحكمة على سبيل الإطلاق؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- أطلق، قال: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيكون عزيزاً في كل حال؛ وحكيماً حاكماً في كل حال.

8.  وجوب المتعة لكل مطلقة؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ ويستثنى من ذلك: من طلقت قبل الدخول وقد فرض لها المهر؛ لقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} سورة البقرة(237)؛ وكذلك يستثنى: من طلقت بعد الدخول فلها المهر: إن كان مسمًّى فهو ما سمي؛ وإن لم يكن مسمًّى فمهر المثل؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن من طلقت بعد الدخول فلها المتعة على زوجها مطلقاً؛ لعموم الآية.

9.     أنه ينبغي تأكيد الحقوق التي قد يتهاون الناس بها؛ لقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}..

10.             أن التقوى تحمل على طاعة الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.

11.     أن مسائل النكاح والطلاق قد يخفى على الإنسان حكمتها؛ لأن الله جعل بيان ذلك إليه، فقال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}.

12.     الثناء على العقل، حيث جعله الله غاية لأمر محمود – وهو تبيين الآيات؛ والمراد عقل الرشد السالم من الشبهات، والشهوات- أي الإرادات السيئة.

13.             أنه لا يمكن أن يوجد في الشرع حكم غير مبين؛ لقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}2.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم(1501).

2  راجع: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي. ومعالم التنزيل، للبغوي. وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.