الصلاة الوسطى

الصلاة الوسطى

الصلاة الوسطى

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله -سبحانه وتعالى- قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها مع جماعة المسلمين في المساجد؛ وخص الصلاة الوسطى بمزيد من العناية؛ فقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} سورة البقرة (238).

شرح الآية:

في هذه الآية المباركة يأمر الله -تعالى- عباده بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها؛ بجميع شروطها وأركانها، وواجباتها وسننها، فقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} و"المحافظة على الصلاة هي المداومة والمواظبة عليها.

وبالمحافظة على الصلوات تتحقق المحافظة على العبادات الأخرى وترك المنهيات، لأن من فوائد وثمار الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر خصوصًا إذا أكملها المسلم كما أمر الله؛ لقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} سورة العنكبوت(45). قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد من الله إلا بعدا"1.

ومن صفات المؤمنين الوارثين الفردوس أنهم يحافظون على صلواتهم في أوقاتها حيث ينادى بها؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة المؤمنون(9-11). وبما أنها سبب من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات}؛ وقال تعالى في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} سورة المعارج (34). وقد ذم الله -سبحانه وتعالى- وتوعد من لم يحافظ عليها في آيات كثيرة؛ منها قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} سورة مريم (59). وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} سورة الماعون (4) (5).

بل إن المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة من أحب الأعمال إلى الله -سبحانه وتعالى- لما جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحب إلى الله؟ قال : (الصلاة على وقتها…)2. والآيات والأحاديث المبينة لفضل الصلاة والداعية إلى المحافظة على الصلوات المكتوبات، والمتوعدة لتاركها والمتساهل فيها كثيرة جداً.

ثم خص سبحانه صلاة العصر عن بقية الصلوات بمزيد من الاهتمام والعناية، فقال: {والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} أي الفضلى؛ والوسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء خيره وأعدله ومنه؛ قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} سورة البقرة(143).

والمقصود بالصلاة الوسطى هي: صلاة العصر؛ كما جاء بذلك النص عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في حديث علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا ثم صلاها بين العشاءين بين المغرب والعشاء)3.

وقد اختلف العلماء في تعين الصلاة الوسطى على أقوال عشرة؛ نذكرها ملخصة من دون ذكر قائلها:

القول الأول: أنها الظهر لأنها وسط النهار على الصحيح من القولين أن النهار أوله من طلوع الفجر، وإنما بدأنا بالظهر لأنها أول صلاة صليت في الإسلام.

القول الثاني: أنها العصر؛ لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل

القول الثالث: أنها المغرب، وذلك أنها متوسطة في عدد الركعات ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها وبعدها صلاتا جهر وقبلها صلاتا سر.

القول الرابع: صلاة العشاء الآخرة؛ لأنها بين صلاتين لا تقصران وتجيء في وقت نوم ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها..

القول الخامس: أنها الصبح؛ لأن قبلها صلاتي ليل يجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما ولأن وقتها يدخل والناس نيام والقيام إليها شاق في زمن البرد لشدة البرد وفي زمن الصيف لقصر الليل.

القول السادس: صلاة الجمعة؛ لأنها خصت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا.

القول السابع: أنها الصبح والعصر معا.

القول الثامن: أنها العشاء والصبح.

القول التاسع: أنها الصلوات الخمس بجملتها؛ لأن قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ يعم الفرض والنفل ثم خص الفرض بالذكر.

القول العاشر: أنها غير معينة، وأن الله خبأها في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وكما خبأ ساعة يوم الجمعة، وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء ليقوموا بالليل في الظلمات لمناجاة عالم الخفيات4.

ولعل القول الراجح – والله أعلم- من هذه الأقوال هو قول الجمهور، وهو أن المراد بها صلاة العصر؛ وذلك لما سبق في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على أنها صلاة العصر.

وبما أنه قد جاء النص على ذلك من فيِّ النبي –صلى الله عليه وسلم- فلا قول بعد قوله، فيقال: "إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"؛ وحينئذ فلا عبرة بما خالفه؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أعلم الناس بمراد الله؛ وقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} سورة النحل(44)..

ثم بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أنه يجب على كل مصلٍّ أن يؤدي هذه الصلاة بخشوع واطمئنان؛ وأن لا ينقرها نقر الغراب؛ فقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي ذليلين خاشعين، ففيه الأمر بالقيام والقنوت والنهي عن الكلام، والأمر بالخشوع، هذا مع الأمن والطمأنينة..

و"القنوت" يطلق على عدة معانٍ؛ منها: دوام العبادة والطاعة؛ ومنه قوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} سورة التحريم(12)؛ ويطلق "القنوت" على "الخشوع" وهو السكوت تعظيماً لمن قنت له؛ وعليه يدل سبب نزول الآية؛ فإنه كان أحدهم يكلم صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ فأمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام؛ كما جاء في حديث زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}؛ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام5.. إذاً "القنوت" خشوع القلب الذي يظهر فيه خشوع الجوارح؛ ومنها اللسان حتى لا يتكلم الإنسان مع الناس؛ ليتجه إلى صلاته؛ وكذلك لا يفعل إلا ما يتعلق بصلاته..

بعض الفوائد المستفادة من الآية:

1.  وجوب المحافظة على الصلوات الخمس؛ لقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ}؛ والمحافظة عليها تعني أداؤها في وقتها مع الجماعة في المسجد، مستوفية أركانها وشروطها، وواجباتها وسننها.

2.  فضيلة صلاة العصر؛ لأن الله خصها بالذكر بعد التعميم؛ وهي أفضل الصلاتين المفضلتين: العصر، والفجر؛ وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فضلهما في أحاديث كثيرة؛ فمنها حديث أبي موسى -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من صلى البردين دخل الجنة)6. والبردان: الصبح والعصر. ومنها أيضاً حديث أبي زهير عمارة بن رويبة -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)7.

3.  أنه ينبغي للإنسان إذا تعبد لله أن يستشعر أمر الله؛ لأنه أبلغ في الامتثال، والطاعة؛ وكذلك ينبغي أن يستحضر أنه متأسٍ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنما يشاهده رأي عين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صلوا كما رأيتموني أصلي)8 فتتم له المتابعة.

4.  الأمر بالقنوت لله -عز وجل-؛ وهو خشوع القلب الذي يظهر منه سكون الجوارح؛ لقوله تعالى: {قَانِتِينَ} ولما روي في الأثر عن سعيد ابن المسيب -رحمه الله- أنه لما رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"9.

5.  تحريم الكلام في الصلاة – بناءً على سبب النزول؛ وهو أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية؛ فأمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام.

6.  وجوب القيام في الصلاة؛ فقد أجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه منفردا كان أو إماما؛ ولما جاء في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن فصلّى صلاة من الصلوات وهو قاعد، فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون)10. ويستثني من ذلك: صلاة النافلة؛ لدلالة السنة على جوازها من قاعد؛ هذا إذا جعلنا قوله تعالى: {الصلوات} عامة؛ وأما إذا جعلناها خاصة بالفرائض فلا استثناء. ويستثنى أيضاً الخائف، مثل أن يصلي خلف الجدار إن قام علم به عدوه فمال عليه؛ وإن صلى جالساً سَلِم. ويستثني أيضاً العاجز عن القيام؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} سورة التغابن(16). ويستثني أيضاً المأموم القادر على القيام إذا صلّى إمامه العاجز عنه قاعداً من أول صلاته؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإمام: (إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون)11؛ أما إذا طرأ عليه العجز في أثناء الصلاة فإن المأمومين يتمونها قياماً؛ لقصة صلاة أبي بكر بالناس، حيث ابتدأ بهم الصلاة قائماً؛ فلما حضر النبي -صلى الله عليه وسلم- في أثناء الصلاة صلى جالساً، وأتموا خلفه قيام12. 13.

والله أعلم، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.

2 رواه البخاري ومسلم.

3  رواه البخاري ومسلم.

4  راجع هذه الأقوال مع إسناده إلى قائلها في كتاب "الجامع لأحكام القرآن" (3/196) للقرطبي.

5 رواه مسلم.

6 ) رواه البخاري ومسلم.

7 رواه مسلم.

8 رواه البخاري.

9  إحياء علوم الدين(1/151).  الناشر: دار المعرفة – بيروت.

10 رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

11 رواه البخاري ومسلم.

12 أخرجه البخاري ومسلم.

13 راجع: تفسير القرآن العظيم (1/389). لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(3/196) للقرطبي. معالم التنزيل(287) للبغوي. وأضواء البيان(5/321) للشنقيطي. وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(106). لابن سعدي. وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث. وأيسر التفاسير (120) لأبي بكر الجزائري.