التشاؤم أو التطير
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ :
إن ثمة أمرٍ من الأمور؛ ما تغلغل في صدر إنسان إلا عاش حزيناً كئيباً وقد نهى الشارع الحكيم عنه وحذَّر منه أشدَّ التحذير؛ إنه التشاؤم أو التطير، فما هو ؟ وماحكمه واقسامه ؟..
التعريف:
التَطَيُّر في اللغة: التشاؤم، وهو توقع حصول الشر.
وسُمِّيَ التشاؤم تطيراً؛ لأنَّ العرب كانُوا في الجاهلية إذا خرج أحدُهم لأمرٍ قصد عش طائر فيهيجه، فإذا طار الطيرُ من جهة اليمين تيمن به ومضى في الأمر، ويسمون هذا الطائر في هذه الحالة: (السانح). أما إذا طار جهة يسار الإنسان تشاءم به، ورجع عما عزم عليه، وكانوا يسمون الطير في هذه الحالة: (البارح).
فجاء الإسلام فأبطل هذا الأمر ونهى عنه، وشدد في النكير على فاعله، ورد الأمور إلى سنن الله الثابتة وإلى قدرته المطلقة. وضد التطيّر: التفاؤل: وهو التَّيَمُّن بسماع كلمة طيبة، ويشمل كل قول أو فعل يُستَبْشَر به، والفرق بين التطير والتفاؤل أن الفأل يستعمل فيما يُستَحب، والتطير فيما يُكرَه غالباً.
ومثال التفاؤل: أن يسمع عند عزمه على فعل أمر كلمة طيبة أو اسماً حسناً أو يرى شيئاً طيباً.
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم-:(يتفاءل ولا يتطير)(1).
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من بيته يحب أن يسمع:(يا راشد يا نجيح)(2).
تاريخ التطيُّر وأمثلته:
كان التطيرُ موجوداً عند العرب على الصفة المذكورة آنفاً وصفات أخرى تقاربها. قال البيهقي:"كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب، وبمرور الظباء، فسمُّوا الكل تطيراً، قال: وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهباً إلى المعلم تشاءم، أو راجعاً تيمن، وكذا إذا رأى الجمل مُوقَراً حِملاً تشاءم، فإن رآه واضعاً حِمْلَهُ تيَّمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله)(3). والتطير قديم الوجود في الأمم؛ فقد أخبرنا الله –سبحانه- أن فرعون وقومه تطيروا بموسى- عليه السلام-ومن معه:{فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(4).وقبل ذلك تشاءم قوم صالح بصالح-عليه السلام-{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}(5)وكذلك أصحاب القرية تطيروا برسل الله إليهم:{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}(6).وكان الرد عليهم جميعاً: أن ما حل بهم من شر أو نقص في نفس أو مال، أو ما نزل بهم من عقوبة ما هو إلا من قِبَل أنفسهم بسبب كفرهم وعنادهم واستكبارهم، {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ}(7) وما زال الناس وإلى يومنا هذا يتطيرون، وتطيُّرهم دليل ضعف توكُّلهم على ربهم، ونقص عقولهم فأي شأن للطير أو غيره بمستقبل الإنسان وقدره؟!
وللناس في التشاؤم أيام معينة أو ساعات محددة أو أعداد معينة مما لا ينقضي منه العجب. فالرافضة (يكرهون التكلم بلفظ العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة حتى البناء لا يبنون على عشرة أعمدة،ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك؛لكونهم يبغضون خيار الصحابة، وهم العشرة المشهود لهم بالجنة)(8).وكثير من الناس في الغرب يتشاءمون بالرقم( 13)؛ ولذا حذفته بعض شركات الطيران من ترقيم المقاعد كما حذفوه في ترقيم المصاعد والأدوار في العمائر الكبار. وآخرون يتشاءمون بنعيق البوم والغراب، ورؤية الأعور والأعرج والعليل والمعتوه. قال الشيخ ابن عثيمين(9):(والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم فإنها تضيق عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاءم، وقال: اليوم يوم سوء وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتَرِ -والعياذ بالله- وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء،ويقول: إنه يوم نحس وشؤم،ومنهم من يتشاءم بشهر شوال،ولاسيما في النكاح،وقد نقضت عائشة -رضي الله عنها- هذا التشاؤم بأنه-صلى الله عليه وسلم-عقد عليها في شوال؛وبنى بها في شوال،فكانت تقول: أيُّكن كانت أحظى عنده مني ؟)(10)
حكم التطير:
التطير محرم مخل بالتوحيد، وقد نفى النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-تأثيره،وجعله شركاً.أما نفي تأثيره ففي قوله-صلى الله عليه وسلم-:( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)(11)حيث نفى تأثير الطيرة.وأمَّا جعلُهُ-عليه الصلاة والسلام-الطيرة شركاً،ففي قوله:(الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك)(12).وقوله في حديث عبد الله بن عمرو:(من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)(13)وإنما جعل التطير شركاً لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً؛ فكأنهم أشركوه مع الله-تعالى-وهذا الاعتقاد منافٍ لقوله-تعالى-:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(14)فالله هو النافع الضار، وهذه الطيور لا تعلم الغيب،ولا تدل على المخبَّأ من الأمور بوجه.
قال ابن القيم:( التطير: هو التشاؤم بمرئيٍ أو مسموع،فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفر وامتنع بها عما عزم عليه فقد قرع باب الشرك،بل ولجه، وبرئ من التوكل على الله- سبحانه-،وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله،وذلك قاطع على مقام{إياك نعبد وإياك نستعين}(15)، وقوله –تعالى-:{فاعبده وتوكل عليه}(16)، وقوله –تعالى-:{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }(17) فيصير قلبه متعلقاً بغير الله عبادة وتوكلاً، فيفسد عليه قلبه وإيمانه وحاله،ويبقى هدفاً لسهام الطيرة،ويساق إليه من كل أرب، ويقيض له الشيطان من يفسد عليه دينه ودنياه،وكم هلك من هلك بسبب ذلك وخسر الدنيا والآخرة.
وقال الشيخ ابن عثيمين: فإذا تطير الإنسان بشيء رآه أو سمعه، فإنه لا يعد مشركاً شركاً يخرجه من الملة؛ لكنه أشرك من حيث أنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سبباً،وهذا يُضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركاً من هذه الناحية والقاعدة:(أنَّ كُلَّ إنسانٍ اعتمدَ على سَبَبٍ لم يجعلْهُ الشَّرعُ سَبَباً فإنه مُشْرِكٌ) وهذا نوع من الإشراك مع الله: إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعياً،وإما في التقدير إن كان السبب كونياً.لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعلٌ بنفسه دون الله فهو مشرك شركاً أكبر؛ لأنه جعل لله شريكاً في الخلق والإيجاد)(18).
وأما إخباره بأن الطيرة تنافي حقيقة الإسلام ويخشى على صاحبها فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-:(ليس منا من تطير أو تُطُيِّرَ له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)(19).
وروى أبو داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكِرَتِ الطيرةُ عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال:(أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً)(20).
والطيرة من الجبت،قال-صلى الله عليه وسلم-:(العيافة والطيرة والطرق من الجبتِ)(21).والجِبت: السِّحرُ كما فسَّره به عمرُ بنُ الخطَّاب. وذلك أنَّ المتطير يعتمدُ في معرفة المغيَّبات على أمر خفيٍّ كالساحر الذي يعتمدُ في قلب حقائق الأشياء على أمر خفيٍّ.
أقسام الناس في الطيرة:
ينقسم الناس تجاه الطيرة ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يتطير، ويستجيب لداعي التطير فيُحجم عن أمر، أو يُقدم عليه بدافع من طيرته؛ فهذا قد واقع المحرم،وولج بابَ الشرك على التَّفصيلِ المذكورِ سابِقاً.
القسم الثاني: مَنْ إذا وقع له ما يدعُو إلى الطِّيرة عند الناسِ لم يترك ما بدا له فعلُهُ، لكنه يمضي في قلق واضطراب وغمٍّ، يخشى من تأثير الطيرة، فهذا أهون من الأول؛ حيث لم يُجِبْ داعي الطيرة، لكن بقي فيه شيءٌ من أثرها، وعليه أن يمضي متوكِّلاً على اللهِ –سبحانه- مُفوِّضاً أمورَهُ إليهِ.
القسم الثالث: وهم أعلى الأقسام وهم مَنْ لا يتطيَّرون، ولا يستجيبون لداعي الطِّيرة، ولا يعني ذلك أنه لا يخطر في قلوبهم شيءٌ أصلاً، ولكن متى عرض لقلوبهم شيءٌ ردُّوه بالتوكل على اللهِ وتفويض الأمورِ إليه، قال معاوية بن الحَكَم: قلت: يا رسولَ اللهِ ! منَّا رجالٌ يتطيَّرون ! قال: ذلك شيءٌ يجدونه في صدورِهم فلا يصدنهم)(22).
علاج الطيرة وكفارتها:
بيَّن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه لا يجوز أن يلتفت المسلم إلى الطيرة فترده عن حاجته، وعليه أن يمضي متوكِّلاً على الله مُردداً الذكرَ الوارد في ذلك؛ فعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-:(من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك ؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)(23). اللهم وفقنا للعمل بكتابك وسنة نبيك يا أرحم الراحمين. والحمد لله رب العالمين.
1– أخرجه أحمد في مسنده برقم (2213).
2– أخرجه الترمذي وصححه كتاب السير عن رسول الله باب ما جاء في الطيرة برقم (1541).
3– فتح الباري، 10/213.
4– (131) سورة الأعراف.
5– (47) سورة النمل.
6 – (18) سورة يــس.
7– (131) سورة الأعراف .
8–منهاج السنة لا بن تيمية، 1/10.
9– المجموع المفيد، 2/32.
10-رواه مسلم، كتاب النكاح باب استحباب التزوج والتزويج في شوال برقم (2551).
11-رواه البخاري كتاب الطب باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن برقم(5278).
12-رواه أبو داود كتاب الطب باب في الطيرة برقم(3411).
13– أخرجه أحمد في مسنده برقم (6748).
14– (107) سورة يونس.
15- الفاتحة 5
16- هود 123
17- الشورى 10
18– القول المفيد على كتاب التوحيد، 2/ 93.
19–رواه البزار قال المنذري: إسناده جيد (الترغيب 4/33).
20– رواه أبو داود، ح/ 3418.
21– رواه أحمد، 3/477، وأبو داود، 4/228.
22– رواه مسلم، 4/1748.
23– رواه أحمد، 2/220، وابن السني (293)، والطبراني كما في المجمع، 5/105.