عقد النكاح وإعلانه في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين الذي بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب عقد النكاح في المسجد(1)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله -: (ويستحب عقده في المساجد)(2)، وقال ابن القيم – رحمه الله – وهو يتكلم عن اللعب والهزل والمزاح في حق الله – تعالى -، وأنه لا يجوز، ثم قال: (… ومما يوضحه أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه بل هو مقدم على نفلها، ولهذا يستحب عقده في المساجد، وينهى عن البيع فيها)(3).
ومرادهم بالعقد: الإيجاب من ولي المرأة، والقبول من الزوج، واستدلوا لذلك بما رواه الترمذي من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله ﷺ: (أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف)(4)، وقد ضعفه الترمذي فقال: “هذا غريب حسن في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث”(5)، وقال عنه البخاري: “منكر الحديث”، وقال ابن حبان: “يروي أحاديث كلها موضوعات”(6)، ولذلك لم يستدل به أكثر القائلين بالاستحباب، بل عللوا ذلك بأن النكاح طاعة وعبادة، فيستحب في المساجد التي هي مكان عبادة الله، أو لأنه أدعى للإعلان، أو لحصول بركة المكان(7).
وقد ورد في حديث الواهبة أن النبي ﷺ عقد لرجل في المسجد أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله أهب لك نفسي!! فنظر إليها رسول ﷺ فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله ﷺ رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: (فهل عندك من شيء؟)، فقال: لا والله يا رسول الله، فقال: (اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً؟) فذهب ثم رجع، فقال: لا والله ما وجدت شيئاً، فقال رسول الله ﷺ: (انظر ولو خاتم من حديد)، فذهب ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتم من حديد، ولكن هذا إزاري (قال سهل: ما له رداء) فلها نصفه، فقال رسول الله ﷺ: (ما تصنع بإزارك إن لبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبِسَتْه لم يكن عليك منه شيء)، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله ﷺ مولياً، فأمر به، فدعي، فلما جاء قال: (ماذا معك من القرآن؟) قال: معي سورة كذا وكذا (عدَّدَها)، فقال: (تقرؤهن عن ظهر قلبك؟) قال: نعم، قال: (اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن) قال الحافظ في الفتح (9/206): (وفي رواية سفيان الثوري عند الإسماعيلي”جاءت امرأة إلى النبي ﷺ وهو في المسجد”، فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصة) ففي هذا دليل أن النبي ﷺ أجرى عقد النكاح في المسجد.
قال سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في شرحه للزاد عند تناوله لاستحباب العقد يوم الجمعة مساء: “وذكر ابن القيم أنه ينبغي أن يكون في المسجد أيضاً لشرف الزمان، والمكان، وهذا فيه نظر في المسألتين جميعاً، إلا لو ثبتت السنة بذلك فبها ونعمت، لكني لا أعلم في هذا سنة”(8).
إذن حكم العقد في المسجد، مباح، ولكن لا ينكر على من قال باستحبابه لا سيما وقد قال به علماء كبار، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
1 – وهم الحنفية كما في فتح القدير (3/189)، والشافعية كما في إعانة الطالبين (3/273)، وبعض الحنابلة، كما في الروض المربع(6/243 مع الحاشية).
2 – مجموع الفتاوى (32/18).
3 – إعلام الموقعين (3/126).
4 – رواه الترمذي وضعفه، والألباني في ضعيف الترمذي (185).
5 – سنن الترمذي (3/398).
6 – ميزان الاعتدال (5/392).
7 – راجع: تحفة الأحوذي (4/178).
8 – الشرح الممتع على زاد المستقنع (5/132).