بعض صور لبس الحق بالباطل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
أيها الناس: فإن الله عز وجل خلق الخلق من الجن والإنس لغاية عظيمة، وهي عبادته سبحانه وتوحيده والإخلاص له وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات(56)، ومن أجل ذلك أنزل سبحانه الكتب وأرسل الرسل، وزود عباده بالعقول التي تميز الخير من الشر والحق من الباطل، وتكفل سبحانه بالعون والتوفيق لمن أراد الهدى والحق فدله إليه ورزقه الانقياد له، وتخلى عمن أعرض عن الحق فلم يقبل به، ولم يستسلم ويخضع له، وكل هذا من الابتلاء الذي خلق الله -سبحانه- الموت والحياة من أجله، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} سورة الملك(2).
وانقسم الناس إثر ذلك إلى مؤمنين موحدين مدركين للغاية التي من أجلها خلقوا، فصارت دوافعهم كلها في مرضاة الله سبحانه، وسخروا كل ما آتاهم الله في هذه الدنيا لخدمة هذه الغاية الشريفة لنيل مرضاة الله -سبحانه وتعالى-، فعملوا للآخرة والفوز برضوان الله والجنة، ومن الناس من أمضى حياته في اللهو واللعب وإيثار الحياة الدنيا، وجعل هذه الدنيا همه وغايته واتبع هواه، فخسر الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين.
ثم إن الفئة المؤمنة لم تسلم كذلك من الفتن، وكيف لا يكون ذلك وعدوها الشيطان الرجيم متربص بها لا يفتأ يضلها ويزين لها ويخدعها؟ يقول الله -عز وجل- عن إبليس اللعين: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} سورة الأعراف(16) (17)، وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} سورة الحجر(39)(40).
أيها الناس: إن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد، فتنة التزيين ولبس الحق بالباطل، واتباع الهوى في ذلك، ولقد وقع في هذا الشَرَك الخطير كثير من الناس وبخاصة في زماننا هذا، حيث تموج الفتن موج البحر، وحيث كثر الخداع والنفاق والدجل والرياء.
نعم، إننا في زمان اشتدت فيه غربة الإسلام، وضُلل كثير من الناس، وتمكن الشيطان من كثير منهم تمكناً يظنون معه أنهم بمنأى عن عدوهم اللدود وعلى صلة بربهم سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا بسبب التباس الحق بالباطل، والجهل بالعلم، ولتعاون شياطين الجن والإنس: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} سورة الأنعام(112)، فتعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة، وألفاظ من القول خادعة، وتسمية للأشياء بغير أسمائها؛ فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس، والعاقل منهم من وقف حائراً لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من التناقضات وتبرير المواقف الخاطئة المخالفة للشريعة، بسبب استيلاء الهوى على النفوس واستيلاء الشهوات على القلوب.
ولما كان من غير المستطاع المجاهرة برد الشريعة ورفضها، كان لابد لهم من لي أعناق النصوص من آيات وأحاديث ليستدل بها أولئك المبطلون على المواقف المنحرفة وليست فيها دلالة عليها، ولو أن الذي يقع في الانحراف يعترف بذنبه وخطئه وضعفه في مخالفة الشريعة، لكان الأمر أهون، وكذلك لو أنه استدل بدليل في غير محله ولما نُبّهَ إلى هذا الخطأ في الاستدلال رجع واعترف لكان هذا أيضاً أهون، ولكن المصيبة أن يصر المسلم الذي حَرّفَ الأدلة ولواها ليجد لعمله مَخْرَجَاً وشرعية، فيكابر بعد بيان الحق له، ويغالط نفسه والمسلمين بصنيعه هذا..
أيها الموحدون: إننا في زماننا هذا نرى صوراً كثيرة من لبس الحق بالباطل، وصوراً أخرى من المغالطات والخداع والحيل المحرمة في شرع الله عز وجل، فكان لزاماً على الدعاة والمصلحين أن يحذروا من الوقوع في هذا المزلق، وأن يكشفوه للناس ولا يدَعُوهم لأهل الأهواء يلبسون عليهم دينهم ويحرفون الكلم عن مواضعه، ومعلوم ما ينتج من وراء ذلك من الفتن والتضليل.
لذلك كان لابد من أن نقف عند بعض صور لبس الحق بالباطل، يقول الله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة(42)، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة آل عمران(71).
إن صور لبس الحق بالباطل كثيرة، ولها أشكال مختلفة، ولكننا نشير إلى بعض منها، فمن تلك الصور:
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله خوف الابتلاء وتعريض النفس للفتن:
هناك من يترك الأمر والنهي عجزاً وكسلاً وجبناً وخوراً، لكن لا يريد أن يعترف بهذه الصفات الذميمة، فبدلاً من الاعتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية، منها: الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد، معتمداً على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح! والضوابط الشرعية في ذلك، فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على النفس وعلى الناس في أن النكول عن الأمر والنهي قد تم من منطلق شرعي وضوابط شرعية، والأمر في حقيقته ليس كذلك، وإنما هو الخوف والجبن وإيثار السلامة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله -عز وجل-؛ يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: “ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة: صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال –تعالى- عن المنافقين: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ}1 سورة التوبة(49). فلا يصح لقائل أن يقول أنه يجب الابتعاد في الدعوة إلى الله –سبحانه- عن كل ما من شأنه أن يجر على الداعية الأذى والمحن!، إن صاحب هذا القول قد نسي أو تناسى سنة الله -عز وجل- في الصراع بين الحق والباطل، وسنته -سبحانه- في الابتلاء والتمحيص؛ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} سورة العنكبوت(10)(11).
إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم، بدليل عدم الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ولو كان قليلاً، وإنما مادام الأمن والسلامة والراحة فهو نشيط ومتحرك، فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء والتمحيص آثر السلامة والراحة، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد، ولا يعني ما سبق من الكلام أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء، كلا، فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلاء، كما لا يفهم منه أيضاً الدعوة إلى التهور والطيش معاذ الله، فلابد من وجود المنطلقات الشرعية في كل التصرفات، لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله -سبحانه- في ابتلاء المؤمنين، وأن نوطن أنفسنا على هذه الأمور، لأنه لابد منها لكل من ادعى الإيمان وتصدّر للدعوة والجهاد، ولابد منها ليتميز الخبيث من الطيب، ولابد منها لتمحيص القلوب والصفوف، ولو قلبنا تاريخ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وتاريخ الدعاة والمصلحين لرأينا ذلك المعلَم ظاهراً وقاسماً مشتركاً عندهم جميعاً.
وقريب من هؤلاء أولئك الذين يبررون كسلهم وحبهم للراحة وضعف همتهم بالتواضع البارد والزهد في المسؤولية؛ لأنه يعرف أن الدعوة إلى الله -سبحانه- لا يعرف صاحبها الراحة، وتحتاج إلى همة عالية، لكنه عوضاً من أن يعترف بضعفه هذا، فإنه يغالط نفسه وغيره، ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا الضعف على الخوف من المسؤولية واحتقار النفس، وأن هناك من هو أولى وأتقى وأفضل .. إلخ.
ومن صور لبس الحق بالباطل: المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة والتسامح ومصلحة الأمة:
إن الخلط بين المداراة والمداهنة، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح، كل ذلك ينتج عنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة.
وإيضاحاً لهذا الأمر: أنقل كلاماً لأهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة والمداهنة ومسألة الولاء والتسامح.
قال البخاري -رحمه الله- في باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: “إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم”، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنه استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: (ائذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة)، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلت ثم ألنت له في القول، فقال: (أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله مَن تَركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه)2. ويعلق ابن حجر -رحمه الله- على حديث عائشة بقوله: “قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لاسيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك”3.
ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة، وأنهما ضدان لا يجتمعان، إذ إن المداراة صفة مدح وهي لأهل الإيمان، بينما المداهنة صفة ذم وهي لأهل النفاق، فهل بقي بعد هذا البيان مجال للالتباس في هذا الأمر؟!.
ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق وأهل المعاصي من المسلمين فحسب، وإنما الأخطر من ذلك هو: مداهنة الكفار بمشاربهم المختلفة تحت غطاء المداراة ومصلحة الأمة، حتى اهتز جانب الولاء والبراء الذي هو الركن الركين في عقيدة التوحيد وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله يضعف، بل اهتز عند بعضهم، والسبب في ذلك: الجهل بحقيقة المداراة والمداهنة، أو المغالطة فيهما عن علم وهوى.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر، واستغفروا الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
ومن صور لبس الحق بالباطل -عباد الله-: الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع، إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد، وصدق الله العظيم: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} سورة النساء(27).
ومن رحمة الله -عز وجل- أنه لم يكل مصالح العباد إلى أهواء البشر وشهواتهم، بل وضع سبحانه شريعة كاملة مبرأة من الجهل والهوى، ومبرأة من النقص والقصور؛ لأن مصدرها منه سبحانه الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، ولو أن تقرير مصالح العباد كان في أيدي البشر لحصل من ذلك شر وفساد كبير، وذلك لما عليه البشر من الجهل والنقص والهوى والشهوة، وهذا مشاهد في الواقع ؛ فالمجتمعات التي لا يحكمها شرع الله -سبحانه- وتحكمها أنظمة البشر وقوانينهم نرى فيها من الفساد والشرور والظلم والاستعباد والضنك والضيق ما تعج منه الأرض والسماوات، وتبرأ منه الوحوش في البريات، وصدق الله العظيم: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} سورة المؤمنون(71).
إن الذين يتشدقون بالتيسير ويغالطون به بغير علم ولا هدى من الله -سبحانه-، لو كان الأمر بأهوائهم لعطلوا كثيراً من أحكام الشريعة التي قد يُظَن فيها المشقة والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين، فالله -سبحانه- الرحيم بعباده، هو الذي يعلم ما يصلح شؤونهم، وييسر أمورهم، ويعلم ما يشق عليهم وما لا يشق، إنه حكيم عليم.
ومن صور لبس الحق بالباطل: التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله:
إن من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع، فلا ترى الحق بصورته المضيئة ولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة إليه، وباطنها الكيد والمكر والخداع، ويحصل من جراء ذلك: أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويثنون على أهـلها بدلاً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها، وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، يقول ابن القيم-رحمه الله-: “فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر -رضي الله عنه-، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله”4..
وقد قص الله -سبحانه- علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا خداع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين برفع لافتة إسلامية على صرح من صروح النفاق، لكن الله -عز وجل- فضحهم وفضح لافتتهم وعرّى باطلهم، ليكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم، وعبر التاريخ الطويل لمن يأتي بعدهم ممن يرفع لافتة إسلامية يخفي وراءها خبثه ومكره، ويكيد بها المسلمين في أي زمان ومكان، وهذه القصة ذكرها الله–سبحانه- في سورة التوبة بما يعرف بمسجد الضرار، حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} سورة التوبة(107)(108)، واللافتات المرفوعة اليوم كثيرة وماكرة، أقتصر منها على بعض الأمثلة:
ما يرفعه الذين بدلوا شرع الله -عز وجل- ورفضوا التحاكم إليه في بلادهم من لافتات يخدعون بها شعوبهم المسلمة، مثل إقامة الذكرى السنوية لإحراق المسجد الأقصى المبارك، فترى هؤلاء المجرمين الخائنين لله -سبحانه- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- يخدعون المسلمين بإحياء ذكرى حرق المسجد الأقصى كأنهم يهتمون بالمسلمين ومقدساتهم، وهم قد خانوا الله –سبحانه- من قبل بتنحية شريعته واستحلال محرماته، وخانوا أمتهم بعد ذلك بالتذلل لليهود والنصارى، وما أصدق ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري -رحمه الله- في محاضرة له مسجلة: “إن إحراق المسجد الأقصى بل إحراق مساجد الدنيا كلها ليس أعظم جرماً من الاعتداء على شرع الله وحكمه وسلطانه في الأرض من قبل الأنظمة التي تتباكى على الأقصى وإحراقه”5. وغير ذلك من اللافتات والشعارات التي ترفع بين الحين والآخر، وما أكثرها في هذا الزمان..
فالواجب -عباد الله- الحذر من الملبسين الذين ضلوا وأضلوا، والحذر من أساليبهم الملتوية.
ولقد خاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من الأئمة المضلين الذين يلبسون على الناس دينهم بأهوائهم وضلالاتهم، فعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله)6، نسأل الله أن يجعلنا من تلك الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، إنه سميع قريب مجيب.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.