زخرفة المساجد

زخرفة المسجد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد:

فإن الله قد اقتضت حكمته تفضيل بعض الأمور على بعضها، ففضّل سبحانه بعض الرسل على بعض، وفضّل بعض الأيام على بعض، وفضّل بعض الساعات على بعض، وفضل بعض الليالي على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، ومن هذه الأماكن التي فضلها الله المساجد، فقد أضاف الله المساجد لنفسه تشريفاً وتعظيماً فقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (سورة الجن:18).

ووصف المسجد في موطن المدح والإطراء، حيث أتبع – سبحانه – نوره بذكر المسجد، وكأنه ينبه عباده إلى أن ذلك النور جزء من نوره، فمن يريد نوره فعليه بالمرابطة بالمسجد قال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ۝ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ۝ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ

وتوعد – سبحانه – من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه بالخزي والعذاب في الدنيا والآخرة، وبيَّن أنه لا أظلم منه كما في قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ومما يدخل في تخريب المسجد تلك الزخارف والنقوش والزينات التي يتنافس فيها الجهلة من المسلمين، فنجد الناس قد غيروا وبدلوا، وزادوا وحرفوا وابتدعوا؛ فلم تسلم  هذه الأماكن المباركة من الابتداع فيها ما لم يأذن به الله، فقد دخل على المسجد بدع كثيرة، ومن هذه البدع: بدعة الزخرفة والزينة.

تعريف الزخرفة:

الزخرفة: هي الزينة، وأصل الزخرف الذهب، ثم استعمل في كل ما يتزين به1، ومنه قوله تعالى: وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ

بعض مظاهر الزخرفة:

إن الزخرفة تعني وضع الزينة في المسجد بأي مظهر من المظاهر التالية:

1- تزين الجدران بالذهب والفضة.

2- نقش الجدران بالألوان والأصباغ المختلفة.

3- وضع التصاوير وأنواع السجاد والنقوش والقناديل والستائر على المنائر.

4- وضع السرج الكثيرة في ليال محدودة، أو في أعياد بدعية؛ كما قال الإمام النووي – رحمه الله -: ومن البدع المنكرة ما يفعله الناس في كثير من البلدان من إيقاد القناديل الكثيرة العظيمة في ليال معروفة من السنة كليلة النصف من شعبان، فيحصل بسبب ذلك مفاسد كثيرة منها: مضاهاة المجوس في الاعتقاد بالنار، والإكثار منها، ومنها: إضاعة المال في غير وجهه، ومنها: ما يترتب على ذلك في كثير من المساجد من اجتماع الصبيان وأهل البطالة، ولعبهم، ورفع أصواتهم، وامتهانهم في المساجد، وانتهاك حرماتها، وحصول أوساخ فيها، وغير ذلك من المفاسد التي يجب صيانة المسجد من أفراده”2.

وإضافة إلى ما ذكره الإمام النووي من اختلاط الرجال والنساء، وشرب الدخان، والرقص والطرب، والتمايل يمنة ويسرة، وذلك عند التواشيح البدعية والشركية التي يزعمون أنهم يمدحون بها النبي .

حكم الزخرفة:

وقد يستغرب البعض عندما يسمع أن الزخرفة للمساجد من البدع المحرمة؛ وذلك لأن كثيراً من مساجد المسلمين اليوم لا تخلو منها – إلا ما شاء الله -، ولأن الناس اليوم قد أحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله، ومن براهين ذلك:

الدليل الأول: ما رواه أبو داود السجستاني عن ابن عباس  – رضي الله  عنه – عن النبي  قال: ما أمرت بتشييد المساجد، يخبر النبي  أنه لم يأمره الله بتشييد المساجد، وكل ما لم يأمر به الله ورسوله فهو مردود على صاحبه غير مقبول منه كما قال النبي : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد رواه مسلم، قال العلامة الصنعاني – رحمه الله -: وقوله ما أمرت إشعار بأنه لا يحسن ذلك، فإنه لو كان حسناً لأمره الله به3.

الدليل الثاني: ما أخرجه ابن المبارك في الزهد، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (585) عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم في هذا الحديث يخبر النبي  أن المسلمين إذا زخرفوا المساجد، وخالفوا أمر الله ورسوله؛ وذلك لأنه كما سبق لم يأمر بزخرفتها؛ فإن الدمار عليهم، وقد يكون هذا دعاءٌ من النبي  على من زخرف المساجد، فتخيل حال من دعا النبي  عليه بالدمار؟! لا شك أن حاله إما فتنة في دينه، أو دنياه، وفي الآخر عذابٌ أليم، قال الله- تعالى-: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم.

الدليل الثالث: أن في الزخرفة وتشيد المساجد ضرب من التباهي المذموم، فقد أخبر النبي  أن من علامات الساعة التباهي بالمساجد، فعن أنس – رضي الله عنه – عن النبي قال: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد، وقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق  فلقد تباهى الناس بالمساجد، فتجد البعض من الأمراء والقادة، والوزراء ورجال الأعمال؛ يبنون المساجد ويزخرفونها، ثم لا يصلون فيها إلا في مواسم معينة، وربما أعلنوا عن بنائهم لذلك المسجد عبر وسائل الإعلام المختلفة.

قال العلامة ابن رسلان – رحمه الله -: “هذا الحديث فيه ظاهرة لإخباره عما يقع فإن تزيين المساجد والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان.. بأخذون أموال الناس ظلماً وعمارتهم بها المدراس على شكل بديع، نسأل الله السلامة والعافية4.

ولكن لا يفهم من ذلك ذم بناء المسجد بحد ذاته، ولكن المقصود ذم ما أحدثه الناس فيه من البدع والمباهات التي تغضب الجبار تبارك وتعالى.

الدليل الرابع: أن في زخرفة المساجد اتباع لسنن اليهود والنصارى، فما من كنيسة ولا معبد يهودي إلا وفيه أنواع الزخارف والنقش والتصاوير؛ حتى أنهم يصورون صور أنبيائهم على جدران معابدهم، وقد سار بعض جهلة المسلمين على طريقتهم؛ حتى أن بعض المساجد  التي تقوم عليها بعض الفرق الضالة تعلق صور مشايخهم في نحو القبلة، وعلى جوانب المساجد، وهذا ما أخبرني به من اثق بديانته أنه دخل بعض مساجدهم، ورأى ما فيها من البدع والصور، وصدق الصادق المصدوق حيث قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع؛ حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن رواه البخاري ومسلم، وقال حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس – رضي الله عنه – كما في البخاري موقوفاً: لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى.

وقال الشيخ حمود التويجري: النوع العشرون: ومن التشبه بأعداء الله – تعالى – ما ابتلي به كثير من المسلمين قديماً وحديثاً من تشييد المساجد وزخرفتها، والتباهي بها قديماً، وتشيد الماضين وزخرفتهم ومباهاتهم لا شيء بالنسبة إلى تشييد أهل زماننا وزخرفتهم بعضهم بعضاً، وهذا من أشراط الساعة5.

الدليل الخامس: أن الزخرفة تؤدي إلى مفاسد كثيرة، منها إفساد الخشوع على الناس في صلاتهم، وقد كان النبي  من أحرص الناس على الخشوع في الصلاة، فلقد دخل ذات يوم بيتاً، فرأى فيه قرني الكبش، فدعا النبي  عثمان بن طلحة فقال له: إني كنت رأيت قرني الكبش حيث دخلت، فنسيت أن آمرك أن تخمرها، فخمرها، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي رواه أحمد، قال الشوكاني: والحديث يدل على كراهة تزيين المحاريب وغيرها مما يستقبله المصلي بنقش أو تصوير أو غيرهما مما يلهي، وعلى أن تخمير التصاوير مزيل لكراهة الصلاة في المكان الذي هي فيه لارتفاع العلة، وهي اشتغال القلب المصلي بالنظر إليه6.

هذا إذا كان في البيت، والذي لا يشرع فيه إلا صلاة النافلة، وأهل البيت الذين عددهم قليل جداً، فكيف بالمساجد التي يصلى فيها الصلوات الخمس المفروضة، وعدد المصلين فيها بالمئات، بل بعضها يكون عدد المصلين بالآف، والذي يعد الخشوع فيها ركن من أركان الصلاة؟ لا شك أن الأمر أشد من ذلك وأخطر.

ومما يؤيد أن الزخارف والنقوش تلهي المصلي في صلاته ما رواه البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : “كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي  لها: أميطي قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بـ: باب إذا صلّى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته، وما ينهى عن ذلك.

وما رواه – أيضاً – البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها-  في الخميصة التي كان لها أعلام، فنظر إليها رسول الله  وهو يصلي، فلما انصرف قال : اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي (والخميصة كساء مربع له أعلام)، فكيف بالمسجد الذي بداخله أنواع النقوشات والألوان، والساعات المتحركة، والرسوم المختلفة؟ فما حال صلاة من يصلي فيه؟ وماذا يقال فيمن فعل ذلك؟!

الدليل السادس: أن الزخرفة مظهر من مظاهر السرف، وإضاعة المال، وقد حذرنا الله من ذلك فقال: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً۝ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا، وفي البخاري ومسلم قال رسول الله  : إن الله حرَّم ثلاثاً، ونهى عن ثلاث: حَرَّم عقوق الوالدين، ووأد البنات، ومنعاً وهات، ونهى عن ثلاث: عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة  المال، وعن أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما  أفناه، وعن عمله ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7300).

واجب العلماء وولاة الأمر حيال هذه البدعة:

إن الواجب على العلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبيان للناس حول البدع التي عمت وطمت كثيراً من المساجد، ومنها هذه البدعة التي سبقت أدلتها، ولما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان فعلى العلماء البيان باللسان، وعلى ولاة الأمر التغير باليدان كما كان محمد – عليه الصلاة والسلام –، فقد رأى نخامة في قبلة المسجد فحكها بيده الشريفة، وقد علق الحافظ ابن حجر على حديث النخامة في المسجد وحك النبي  لها بقوله: وفي هذا الحديث من الفوائد تفقد الإمام أحوال المساجد، وتعظيمها، وصيانتها، وفعل النبي هذا دل على عظيم تواضعه زاده الله تشريفاً وتعظيماً7.

وقال العلامة ابن الحاج: وينبغي له – أي لولي الأمر – أن يغير ما أحدثوه – أهل البدع والأهواء – من الزخرفة في المحراب وغيره، فإن ذلك من البدع، وهو من أشراط الساعة8.

ولما رأى عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – ابناً له كتب في الحائط – أي المسجد – بسم الله الرحمن الرحيم ضربه، فكيف لو رأى عمر بن عبدالعزيز مساجد المسلمين اليوم وما فيها من الكتابات والنقوش والرسوم، والساعات المتحركة الضخمة والتي ينبعث منها  تلك الرنات المحرمة في خارج المسجد فضلاً عن داخله،  فما عساه أن يقول؟ وما عساه أن يفعل؟!

اللهم! أصلحنا وأصلح بنا، واجعلنا ومساجدنا قائمين على السنة.

اللهم! ثبت قلوبنا على الإيمان واليقين، واهدنا سبل السلام، واصرف عنا البدع وأهلها، إنك جواد كريم!.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


1– انظر فتح الباري (1/540).

2– المجموع شرح المهذب (181).

3سبل السلام 1/265.

4عون المعبود (2/118)

5– الإيضاح والتبين ص73.

6– نيل الأوطار 2/321.

7– فتح الباري 1/514.

8– المدخل 2/214.