احتقار الآخرين

احتقار الآخرين

الحمد لله على التعليم، حمداً يوجب المزيد من التقويم، والصلاة الكاملة والتسليم على محمد النبي الكريم، المبعوث بالهدى إلى الصراط القويم، المقدم على الخليل، وعلى الكليم لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (سورة التوبة:128)، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم ظهور الهول العظيم يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ۝ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (سورة الشعراء:88-89)، أيقظنا الله وإياكم قبل ذلك الحين لأخذ العدة، وثبت أقدامنا إذا زعزعت الأقدام الشدة، ورزقنا قولاً وفعلاً قبل انقضاء المدة، وختم صحائفنا بالعفو قبل جفوف قلم الأجل وانتهاء المدة، وبيض وجوهنا بالصدق يوم ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة، أما بعد:

عباد الله:  يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (سورة الحجرات:11)، نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن السخرية بالآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ مَن يُسخَر منه ويُنظَر إليه نظرة احتقار وازدراء واستخفاف؛ خيرٌ عند الله وأحبُّ إليه من الساخر الَّذي يعتقد الكمال، ويرمي أخاه ويعيِّره بالنقص.

وخصَّ الله ​​​​​​​ النساء بتكرار النهي عن السخرية مع أنهنَّ يدخلن في النهي الأوَّل؛ نظراً لتفشِّي هذه العادة السيئة بين النساء.

إن السخرية لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والكبر، فهو يعمل على إيذاء من حوله بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقه.

لقد استهان إبليس بآدم، وسخر منه قائلاً: أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ (سورة ص:76)، فباء بالخسارة والخذلان، قال ابن جرير: “إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك”1، وقال ابن كثير: “ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم، والاستهزاء بهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله  أنه قال: الكِبْر بطر الحق، وغَمْص الناس 2 ويروى: وغمط الناس3 والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم؛ وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله، وأحب إليه؛ من الساخر منه، المحتقر له؛ ولهذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء”4، وقال عن قوم: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (سورة المؤمنون:110) “ويستفاد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم، والاشتغال بهم فيما لا يغنى، وأن ذلك مبعد من الله ​​​​​​​5، وقال القرطبي: “السخرية الاستحقار، والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه، وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول، أو الإشارة أو الإيماء، أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه، أو غلط، أو على صنعته، أو قبح صورته، وقال بعض: هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته، واختير أنه احتقاره قولاً أو فعلاً بحضرته على الوجه المذكور، وعليه ما قيل المعنى: لا يحتقر بعض المؤمنين بعضاً، والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال، وسلمان، وعمار، وخباب، وصهيب، وابن نهيرة، وسالم مولى أبي حذيفة ، ولا يضر فيه اشتمالها على نهي النساء عن السخرية كما لا يضر اشتمالها على نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض، وسدلت طرفه خلفها؛ فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فنزلت، وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة، فنزلت، وقيل: نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فعزَّ ذلك عليه، وشكاهم إلى رسول الله ﷺ، فنزلت، وقيل غير ذلك؛ وقوله ​​​​​​​: عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيراً عند الله تعالى من الساخرين، فرب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره، وجوَّز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضاً عسى أن يصير المُحتَقَر – اسم مفعول – عزيز، أو يصير المُحتَقِر ذليلاً فينتقم منه، فهو نظير قوله:

لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه 6

 

“إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس، وهي من كرامة المجموع، ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس، لأن الجماعة كلها وحدة، كرامتها واحدة. والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا، وينهاهم أن يسخر قوم بقوم أي رجال برجال، فلعلهم خير منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله. وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم، ويراها النساء في أنفسهن؛ ليست هي القيم الحقيقية التي يوزن بها الناس، فهناك قيم أخرى قد تكون خافية عليهم يعلمها الله، ويزن بها العباد، وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير، والرجل القوي من الرجل الضعيف، والرجل السوي من الرجل المؤوف، وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام، وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم، وذو العصبية من اليتيم، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة، والغنية من الفقيرة .. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين!7.

والميزان عند الله التقوى فقد روى الحاكم وأبو نُعيم في الحُلية عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: رُبَّ أشعث أغبر ذي طِمرين (الثوب الخَلِق البالي)، تنبو عنه أعين الناس؛ لو أقسم على الله لأبرَّه8، وروى مسلم عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم9، ويقَولَ الرَسُولُ : لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ10.

عباد الله: إن سخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول فعَّال يسعى حثيثاً في تهديم العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأُخوَّة الإيمانيَّة شرَّ مُمزَّق، حيث يستعلي المرء بماله، أو حسبه، أو جاهه مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله سلك بأهل الاستقامة سبيل السلامة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، بوأ المتقين في دار المقامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم القيامة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، فاز من جعله إمامه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والكرامة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: إنه يجب على المسلم أن يحفظ لسانه عن الخوض في أعراض الناس، هل أنت يا عبد الله ممن يحفظ لسانه عن إظهار الشماتة، والاستهزاء، والسخرية بالناس؟ هل أنت ممن يحفظ لسانه عن الغيبة، والنميمة؟ إذا كنت كذلك فأبشر، فإنك من أفضل المسلمين مصداقاً لقول النبي  في حديث  أبى موسى  أنه سأل رسول الله  قال: قلت: يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: من سلِم المسلمون من لسانه، ويده11 وجاء في الحديث أن رسول الله  قال: لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضِهم12، وفي حديث آخر قال رسول الله : إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزلُ بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب13. إياك ثم إياك أخي المسلم من الغيبة والنميمة، وإظهار الشماتة والاستهزاء، والسخرية بالناس، واتق الله في نفسك، واحفظ لسانك عن اللغو والقيل والقال، وأكل لحوم الناس بالباطل، والاستهزاء والسخرية بخلق الله، فالله سبحانه خلق الخلق وصورهم وأحسن صورهم، فعندما تسخر من شخص ما فإنك تنتقص من قدر الله ​​​​​​​. فاتقوا الله – رحمكم الله -، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (الأحزاب:56). اللهم إنا نعوذ بك من الكفر، والفسوق، والعصيان، ونعوذ بك من الهوى، والطغيان، ونسألك الخشية، والإنابة، والخضوع بين يديك، وارزقنا التواضع والسكينة، وحبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، واجعلنا من الراشدين.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


1– تفسير الطبري – (ج 22 / ص 298)

2 – سنن الترمذي – (ج 7 / ص 280 – 1922) وصحيح وضعيف سنن الترمذي – (ج 4 / ص 499) تحقيق الألباني: صحيح ، الصحيحة ( 1626 )

3 – صحيح مسلم – (ج 1 / ص 247 – 131) 

4 – تفسير ابن كثير – (ج 7 / ص 376)

5 – تفسير القرطبي – (ج 12 / ص 155)

6 – تفسير الألوسي – (ج 19 / ص 276)

7 – في ظلال القرآن – (ج 6 / ص 499)

8 – سنن الترمذي – (ج 12 / ص 350 – 3789) تحقيق الألباني: صحيح ، المشكاة ( 6239 ).

9 – صحيح مسلم – (ج 12 / ص 427 – 4651)

10 – صحيح مسلم – (ج 12 / ص 426 – 4650)

11 – صحيح البخاري – (ج 1 / ص 17 – 10)  و صحيح مسلم – (ج 1 / ص 150 – 59)

12 – سنن أبي داود – (ج 13 / ص 22 – 4235) تحقيق الألباني: صحيح ، الصحيحة ( 533).

13 – صحيح البخاري – (ج 20 / ص 118 – 5996) وصحيح مسلم – (ج 14 / ص 259 – 5304)