لهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك” غير أن بعض إخواننا هداهم الله في منأى عن هذا التوجيه والأمر الرباني، بل لا يبالون به البتة، مع يسر الحال، وخفة المؤونة عليهم، فيؤذون وربما يأثمون ويؤّثمون إخوانهم من المصلين ، بما ينبعث منهم من روائح كريهة، ويشويشون الناس صلاتهم وعبادتهم.
ومن هؤلاء مثلاً عمال بعض المهن الشاقة والتي يتعرّق أصاحبها كثيراً: ثم يأتي الواحد منهم مع ما به من عرق وروائح مؤذية إلى الصلاة، فيؤذي برائحة عرقه لاسيما إذا لم يكن من أهل النظافة كثيراً، أو يؤذي برائحة مهنته إن كان من أصحاب تلك المهن. كروائح الزيوت لدى العاملين في الورش والبناشر أو يؤذي بالاثنين معاً، والله المستعان.
وهناك يفتح على المصلي الذي بجانبه باب عظيم من الوسوسة، والهلوسة في الصلاة، فإذا كان المصلي الذي عن جانبه من أهل السيارات مثلاً، وقد كان له موقف مع أحد أصحاب البناشر أو الورش.
استدعى ذلك الموقف وما وما كان فيه من مشادة وما حصل فيه من حلول والأخطاء في تلك الحلول وما هي الخطوات والإجراءات التي سيتخذها لو أن الموقف تكرر مرة أخرى. وما الذي تعلمه من ذلك الموقف. وما الذي سيفعله تجاه الآخرين حتى لا يقعوا في مثله، ثم لو قدر أنّ أباه أو أخاه أو أي قريب له حصل له مثله، فإنه سيفعل كذا وكذا وسيقول كذا وكذا وسيذهب إلى فلان وفلان، حتى يقوم معهم بعمل اللازم من كذا وكذا. وهلم جرّ أو يتذكر أن الإطار الاحتياطي في سيارته يحتاج إلى إصلاح أو، أو، أو…إلخ. ولا يستفيق من تلك الأفكار والخيالات إلا بعد السلام، والسبب تلك الرائحة.
ومن المهن أيضاً التي لا يتنبه لروائحها أصحابها مهنة بيع المقالي (المأكولات المقلية) في الأسواق، والتي تعلق رائحتها في ثياب أصحابها، ويأتون بها إلى الصلاة. فإذا دخل الواحد منهم في الصلاة بدأت الهلوسة بالذي عن يمينه والذي عن شماله، ومن أمامه ومن خلفه، وكل من وصلت إليه تلك الرائحة.
فتجد الذي عن يمينه يقول: آه ذكرني برمضان، ثم يهيم في حديث رمضان، وما أدراك ما حديث رمضان، والأكل والطبخ فيه.
ويقول الذي عن يساره، وقد استنشق ثلاث استنشاقات متكررة وخاطفة، ما هذا! سنبوسة! لا ذا جاء بالمحل ليصلي معه! ويخفي ابتسامته بين شفتيه.
ويسأل: من هو يا ترى من هذا؟ فلان الذي في أول الشارع؟ لا لا .. ذاك لا يصلي، آه المقرف. عمله وسخ ما زلت أذكر ما لقيت في السنبوسة الشهر الماضي. الله يل ـ… استغفر الله استغفر الله… ولكنه يستحق السب لأنه لا يصـ… بس ما أحد نصحه ولا كلمه، ولا…! فعله والله مشين.. وكأنه ما يدري أن بلاد المسلمين فيها أمراض فتاكة ومعدية وقاتلة هذه الأيام!!؟ بس ليس هو! هذا فلان! وسأشتري للأهل من عنده بعد الصلاة. حتى نجلس و و… ويبحر في عالم الخيال مع الجلسة مع أهله. ولم يزل كذلك يفتي، ويؤصّل، ويتخيل، وهو لم يزل في ركعة واحدة أو دونها. والسبب تلك الرائحة.
ومن هؤلاء أيضاً بعض من يتهاونون في نظافتهم بعد الأكل خاصة بعد أكل البصل، والكراث والثوم والبقل وغيرها من المأكولات ذات الروائح النفاذة.
أو التهاون في رائحة الفم وقلة نظافته قبل وبعد النوم، فيأتي إلى الصلاة خاصة صلاة الفجر، ورائحة فمه تنبعث إلى بعد أمتار. ويزداد الأمر سوء، إذا كان الذي بجانبه ممن يعاني حالة من حالات الربو، حيث يقل الأكسجين عنده في هذه الوقت، فيخرج إلى الصلاة وأنفاسه تتلاحق بشدة بالغة، حتى إذا اصطف للصلاة وقع بين شرين، الأول: ضيق التنفس والتعب الذي يعانيه بشهق وزفر أكبر قدر ممكن من الهواء، وما أن يقوم بتلك العملية من الشهيق والزفير حتى يقع في الشر الثاني، وهو أنه يستنشق الرائحة الكريهة والمؤذية من فم الذي بجانبه، فيعاني أشد المعاناه ويعنت أشد العنت، إن تنفس شم ما لا يحتمله، وإن كتم أنفاسه كاد أن يغمى عليه بل، أغمي عليه، وربما تأزمت حالته بسبب ذلك. والسبب تلك الرائحة. في حين قد لا يخطر ببال ذلك المتهاون أنه قد يضر بأمثال هذا. والله المستعان.
ومن هؤلاء بل ويدخل فيهم من طريق الأولى رائحة شرب الدخان ( السيجارة) الذي أبتلي به بعض الناس ويأتون إلى الصلاة، وقد جمعوا على أنفسهم السوءين؛ حرمة شرب الدخان، وأذية المسلمين برائحتها. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وشرب الدخان أشد من تلك الأمور نهياً، – أي البصل والكراث والثوم والبقل- لأن شرب الدخان إلى جانب الإيذاء برائحته الكريهة، ضرره محض، لذلك فالحق فيه أنه محرم،.. بينما تلك الأمور المنهي عنها، فيها فوائد عظيمة وكثيرة، وإنما نهي عن أكلها عند إدارة الصلاة بحيث تبقى ريحها، لا في كل حين. فلا مقارنة بينها وبين هذه المادة الخبيثة شماً، والضارة للبدن، والخارمة للمروءة؟! بل لا يوجد شك عند أهل الفطر السليمة، أن الرائحة المنبعثة من فم المدخن وجسمه أسوأ من رائحة البصل.. لذلك تجدك لو جلست إلى جانب أحد هؤلاء المدخنين، ما شككت في أنه قطعة من تبغ! لا تتمالك معها إلا أن تكتم أنفاسك… نسأل الله أن يهدي هؤلاء إلى ترك كل مضر بصحتهم ومؤذٍ لعباد الله.
ونهي رسول الله أن يأكل الإنسان الثوم أو البصل ثم يدخل المسجد فقال: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا – أو قال: فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته).وفي رواية: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) متفق عليه. فيه زجر وموعظة بالغة للمؤمن من أن يقترف ما شابه هذه الروائح أو ما هو أعظم منها، ويظهر الزجر من عدة نواحي:
1. منعه من دخول المسجد، ويحصل فيه حسرة شديدة للمؤمن.
2. فوات صلاة الجماعة، وكون ترك الجماعة معصية.
3. فوات أجر صلاة الجماعة الذي يعدل سبعاً وعشرين درجة عن صلاة الفرد.
وقد تكون الروائح الكريهة ليست ناجمة عن تهاون في النظافة، وإنما نتيجة عن التجمل والتزين والتأنق، فقد يستخدم بعض الناس دهون وأطياب ذات روائح نفاذة جداً، يؤذي شمها بعض من يعانون من التحسسات الأنفية أو الصدرية.
أو يحرص البعض على لبس الجوارب، الشُّرّابات، مع نسيان نظافتها، وبالتالي تنبعث منها روائح تصدع الرؤوس وتزكم الأنوف وتقزز النفوس.
ولقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته على النظافة، والعناية بالمظهر، لما في ذلك من تحقيق التحاب والتآلف، التواد بين المسلمين، فإن المظهر الحسن والريح الطيبة تحبذها النفس طبيعة.
والريح الكريهة تبغضها وبالتالي تبغض صاحبها ولاشك، وعلى الرغم من شدة العيش التي كانت في عهده -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه لم يكن – صلى الله عليه وسلم- وهو المبلغ لأمته- أن يسكت عن هذه المسألة دون أن ينبه عليها، ويترك الناس يؤذي بعضهم بعضاً، ويقع التدابر والتشاحن والتباغض بينهم، فقد أخرج أبو داوود والحاكم والبيهقي
عن عكرمة:” أن ناساً من أهل العراق جاؤوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح، آذى بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الريح قال: (أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أفضل مما يجد من دهنه وطيبه) قال ابن عباس: ثم جاء الله -تعالى- بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق)1.
وهذا يدلنا على التشديد والتأكيد على الاهتمام بالنظافة، وأهمية ظهور المسلم بالمظهر الجميل واللائق، و البعد عن كل ما يؤذي المسلم والحرص على أن تدوم روح الاجتماع والألفة، وإزالة الروائح الكريهة المؤذية للمصلين بل وللملائكة، الذين يحضرون أماكن العبادة والذكر، لأنه لا يمكن لأحد أن يدخل في جماعة ويتآلف معها إلا إذا قدر أفرادها، واحترم مشاعرهم، وأحب ما يحبون، وكره ما يكرهون… ومن هنا نجد ابن عباس -وهو ترجمان القرآن يربط بين السبب والمسبب- وهو أن السبب في الأمر بالاغتسال والنظافة هي الرائحة الكريهة، فعلى هذا فكلما تكررت الرائحة الكريهة تكرر وجوب النظافة، لأن الحكم يدور مع سببه، لأن الضرر المترتب على هذه خبث الرائحة في الصلاة لا يمكن حرصه ولا التكهن به فهو يختلف باختلاف الأشخاص وطبائعهم وحالاتهم التي يكون عليها، ثم إن المسلم ما جاء إلى بيوت الله –تعالى- إلا ليتقرب إلى ربه، ولتمحى عنه ذنوبه وسيئاته.. فليتق الله أذن وليحذر مخالفة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فإن من خالف أمره يوشك أن يصاب بفتنة يجد مرارتها في قلبه وواقعه، مصداقاً لقوله –تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النــور.
هذا والله تعالى الموفق والمعين.
1– قال ابن حجر في الفتح: أخرجه أبو داود والطحاوي وإسناده حسن.