التحذير من النار وأسباب دخولها
الحمد لله، مستحق الحمد وأهله، المجازي خلقه جزاء دائراً بين عدله وفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وحكمه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعي هديه، وسلم تسليماً؛ أما بعد:
عبدالله: اتق الله – تعالى، واتق النار التي أعدت للكافرين،قال الله:{وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[آل عمران: 131-132]، اتقوا ذلك بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بهذا، اتقوا النار فإنها دار البوار والبؤس، ودار الشقاء والعذاب الشديد، دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ساكنوها شرار خلق الله من الشياطين وأتباعهم قال الله تعالى لإبليس: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: 84-85]، دار فرعون وهامان وقارون وأبّي بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق وفجّارهم، ولئن سألتم عن مكانها، فإنها في أسفل السافلين، وأبعد ما يكون عن رب العالمين، طعام أهلها الزقوم- وهو شجر خبيث مر المطعم كريه المنظر لا يسمن ولا يغني من جوع-، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 102]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرات في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟))1, وقال الله عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان: 43-46] هذا طعامهم إذا جاعوا، فإذا أكلوا منها التهبت أكبادهم عطشاً، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف: 29]، والمهل- الرصاص المذاب – يشوي وجوههم حتى تتساقط لحومها، فإذا شربوه على كره وضرورة قطع أمعاءهم، ومزَّق جلودهم، هذا شرابهم كالمهل في حرارته، وكالصديد في نتنه وخبثه، يضطر شاربه إلى شربه اضطراراً، يتجرعه ولا يكاد يسيغه، ويأتيه الموت من كل مكان، وما هو بميت، ومن ورائه عذاب غليظ.
أما لباسهم فلباس الشر والعار، قطعت لهم ثياب من نار، {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ}[إبراهيم: 50]، فلا يقيهم هذا اللباس حر جهنم، وإنما يزيدها اشتعالاً وحرارة، ولا يستطيعون أن يقوا به وهج النار وحرها عن وجوههم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج: 19-21].
عبد الله: اتق النار، فإن حرها شديد، قد فضلت على نار الدنيا كلها بتسع وستين جزءاً يصلاها المجرمون فتنضج جلودهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء: 56]، يرتفع بهم اللهب حتى يصلوا إلى أعلاها، وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون، عذابهم فيها دائم لا يفتر عنهم، وهم فيه مبلسون، يتكرر عليهم فلا يستريحون، ويسألون الخلاص منه ولو ساعة فلا يجابون، يقولون لخزنة جهنم: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ}[غافر: 49]، فتقول الملائكة لهم: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}[غافر: 50]، فلن يستجاب لهم؛ لأنهم لم يستجيبوا للرسل حينما دعوهم إلى الله تعالى، فكان الجزاء من جنس العمل، {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}[المؤمنون: 106]، وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، فيقول الله لهم- على وجه الإهانة والإذلال-: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون: 108]. فحينئذ ييأسون من كل خير ويعلمون أنهم فيها خالدون، فيزدادون بؤساً إلى بؤسهم، وحسرة إلى حسرتهم، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين مـن النـار: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}[الأحزاب: 65-66].
عبد الله: اتق النار، فإن قعرها بعيد، وأخذها شديد، قال أبو هريرة رضي الله عنه: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة- أي صوت شيء وقع-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما هذا؟)) قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها))2. إذا رأت النار أهلها من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظاً وزفيراً تتقطع منه القلوب، فإذ ألقوا فيها، سمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تتميز من الغيظ- أي تكاد تتقطع من شدة الغيظ والغضب على أهلها-، فهي دار حانقة غاضبة على أهلها، وهم في جوفها، فما ظنك أن تفعل بهم؟! .
من أسباب دخول النار:
إن من أعظم أسباب دخول النار هو الكفر بالله والشرك، ولكن هنا سأكتفي بذكر الأسباب التي قد يدخل بها الموحد النار، إلا إذا تاب فالله يغفر له فمنها:
الكلام القبيح،كالكذب، والسباب، واللعن، والزنا، والقتل سواءً قتل نفسه أو غيره من المسلمين، وكذلك الربا قتل الإنسان المؤمن لقول الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93]. وكذلك قتل الإنسان نفسه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومنِ شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومنِ تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردَّى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً))3، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))4، ومفهوم المخالفة أن الذي لا يحفظ فرجه عن الزنا فيقع فيه، والذي لا يحفظ لسانه عن الكلام إلا فيما يعنيه، أو في الخير، يكون ذلك من أسباب دخول النار عياذاً بالله؛ وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار))5، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني – مما يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم من رؤيا)). قال فيقص عليه من شاء الله أن يقص وإنه قال ذات غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به مرة الأولى، قال قلت: لهما سبحان الله ما هذان؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه – قال وربما قال أبو رجاء فيشق- قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل مل فعل المرة الأولى، قال قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور – قال وأحسب أنه كان يقول – فإذا فيه لغط وأصوات، قال فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على نهر – حسبت أنه كان يقول – أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قال قلت لهما: ما هذان؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلا مرآة، فإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها، قال قلت لهما: ما هذا؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط، قال قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قال قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها، فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قال قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صعدا، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قال قالا لي: هذاك منزلك، قال قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني فأدخله قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله، قال قلت: لهما فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً فما هذا الذي رأيت؟ قال قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة…. ))6.
ومن أسباب دخول النار: ترك الصلاة قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر: 42-43].
عبد الله: اتق النار، وحذر كل الحذر أن تكون من أهلها، ولقد بين الله لنا صفات أهل النار، وصفات أهل الجنة، جملة وتفصيلاً، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 37-39], اللَّهم إنا نسألك النجاة من النار، والفوز بالجنة دار القرار يا عزيز يا غفار {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[آل عمران: 192].
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير مبعوث رحمة للعالمين.
1 المستدرك (2/490) رقم (3686)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه؛ مشكاة المصابيح (3/234) رقم (5683)؛ وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2/236) رقم (2159).
2 صحيح مسلم (4/2184) رقم (2844).
3 صحيح البخاري (5/2179) رقم (5442)؛ صحيح مسلم (1/103) رقم (109).
4 صحيح البخاري (5/2376) رقم (6109).
5 صحيح مسلم (4/1997) رقم (2581)
6 صحيح البخاري (6/2583) رقم (6640).