حرية التعبير

حرية التعبير

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ويتحقق العدل بين المخلوقين، وجعل لهم خلفاء يخلفونهم في أممهم علماً وعملاً ليكونوا قدوة للعاملين، ومنارا للسالكين، وشهداء على العالمين، وهؤلاء الخلفاء هم العلماء الربانيون الذين اكتسبوا العلم ابتغاء وجه ربهم، وربوا به الأمة علماً وعملاً فكانوا هداة مهتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

فإن من سنة الله التي خلت من قبل أنه ما من زمان ترفع راية للسنة، ويعلو فيه شأن للمسلمين، ويرتفع لواؤهم؛ إلا وتظهر فيه طائفة من الناس قد امتلأت قلوبهم غيظاً لعز الإسلام، وحقداً لعزة المسلمين، وارتوت أفئدتهم خبثاً ومكراً، ينتبذون مكاناً قصياً، ويسلكون مسالك شتى في الكيد للإسلام، والتربص بحملته، وإن مما ابتلي به المسلمون في هذا الزمان نفر من بني جلدتهم يعيشون بينهم ومعهم، يلبسون ثيابهم، ويتكلمون بلسانهم، لكنهم يحملون همَّاً غير همِّ دينهم، ويدعون إلى منهج غير منهج قرانهم وشريعتهم، يسلكون في ذلك طرائق قدداً، فمرة يؤذون المؤمنين باسم التطرف، وتارة يتطاولون على أعراض العلماء وطلبتهم باسم الحرص على الدين، وأخرى يلزمون الدعاة إلى الله باسم الحفاظ على المصلحة العامة، واستتباب الأمن، وكل ذلك يصدر من مجتمعات إسلامية، وتقرؤه جماهير المسلمين، ينشرون ذلك باسم الحرية: حرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية القلم، أما غرضهم الأساس فهو الانتقاص من قدر العلماء والدعاة وتجريحهم، والتشكيك فيهم، ومحاولة نزع الثقة منهم حتى لا تقوم للإسلام قائمة، إدراكاً منهم أن تلك الصفوة من حملة الدين عليهم المعوّل بعد الله في نشره، وفي تمكين الصحوة.

وإن مما ابتليت به مجتمعاتنا الإسلامية مؤخراً – تحت شعار حرية التعبير – فئة ممن تسنموا الصدارة الصحفية، وامتطوا صهوة أقلامهم لحرب العلماء والدعاة، ونشر مقالات صريحة وجريئة في التطاول عليهم، والانتقاص من قدرهم، وهم يعلمون أن جماهير القراء غالبيتهم من المسلمين، وأن ما يكتب في الصحيفة هو بالدرجة الأولى موجه لهم، وإن من أهم الكتابات التي تلفت أنظارهم هي تلك التي تكتبها أسماء معروفة ذات نفوذ مؤثر، وذلك لأن تلك الأقلام عادة ما تكون مسؤولة أو تعبر عن اتجاه الصحيفة كوسيلة إعلامية تعبر عن واقع المجتمع الذي تعيش فيه، أو تكون مرآة لقياس فكر القائمين عليها، وسياساتهم، وتوجيهاتهم.

ومن هذا المنطلق فإن ذلك السيل الهادر من المقالات المدبجة بعبارات الذم، وكيل التهم للدعاة والناصحين للأمة التي بدأت تطالعنا بها صحافة تصدر في مجتمعات إسلامية؛ كان محل تساؤل الكثيرين من أفراد الأمة الإسلامية، بل وغضبهم مما يقال وينشر.

عباد الله:

إن تلك الفئة من الكتبة يتحدثون بدعوى حرية الرأي عن قضايا ذات علاقة بصفوة الأمة وهم علماؤها وطلابهم، والدعاة إلى الله والناصحون للمسلمين، وتلك وايمُ الله قضية ينبغي لمن أراد الكتابة عنها أن يستكمل شروطها، وأن يفكر ويقدر قبل الشروع في الحديث عنها.

إن ذلك التوجه الخطير في الصحافة له عواقب وخيمة على الأمة، وإن مما يزيد خطورته غض البصر عنهم من قبل الأنظمة السياسية في الدول العربية التي أعطتهم الضوء الأخضر لنهج ذلك المسلك، وكان من نتيجة ذلك أن تمادى هؤلاء الكتاب في غيهم، وتحدوا مشاعر المسلمين وذلك من خلال الكتابة عن علمائهم ودعاتهم بأسلوب فظ غليظ، ومن خلال تسمية الدعاة والعلماء بأسمائهم، والتعريض بهم والانتقاص من قدرهم ومكانتهم، وأخيراً من خلال ذكر أسمائهم في افتتاحيات الصحف، وأغلفة المجلات؛ إمعاناً في الجرأة، ولفتاً للانتباه، في محاولة فاشلة منهم إما لجذب القارئ وكسبه، وإما استفزازاً له وتشفياً منه.

إن من يتابع ذلك الزخم الهائل من المقالات والتحقيقات، والأحاديث الصحفية التي ينشرها أولئك الكتبة على صدر صحفهم وأغلفة مجلاتهم؛ تتبادر إلى ذهنه عدة انطباعات عامة هي القاسم المشترك الذي يجمع بينها، ومن تلك الانطباعات ما يلي: أولاً: أن الكتابة عن الدعاة إلى الله وحملة الإسلام والناصحين له بقصد الانتقاص من قدرهم، والتطاول عليهم، وتشكيك الناس فيهم لنزع الثقة منهم، وتسميتهم بأسمائهم الصريحة بالأسلوب الذي تنتهجه الصحافة العربية؛ لا يخرج عن أحد أمرين:

1- إما غرض شخصي للكاتب لا نعرف نحن القراء كنهه ولا دلالته.

2- وإما محادة صريحة للمؤمنين، وإيذاؤهم، وقد جاء الوعيد لمن انتهج ذلك المسلك في قوله – تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (سورة الأحزاب:58).

ثانياً: إن هذا التوجه في الصحافة العربية يتزامن مع أحداث لا تزال تقع في بعض الأقطار العربية كان طرفاها الحكومات العربية من جانب، والجماعات الإسلامية وبعض المحسوبين على الحركات الإسلامية من جانب آخر.

وإن ذلك توقيت في غير أوانه، بل إن الكثير من المسلمين يعتقد أن ذلك أمر قضي بليل، فهم يساهمون بشكل مباشر في ضرب المسلمين وشباب الصحوة الإسلامية، ويتعاونون مع أنظمتهم في تنفيذ ذلك، ثم هم أيضاً بالتطاول على أهل العلم وطلاب العلم، والمنتسبين إلى الدعوة الإسلامية؛ يلتمسون عذراً لمن يتصيد في الظلام من دعاة الفساد، ورؤوس الضلالة في المجتمعات الإسلامية.

ثالثاً: أن أولئك الكتبة الذين ابتليت بهم صحافة الأمة يحاولون لفت انتباه الجماهير لما يكتبون بطريقة تتنافى مع أعراف الكتابة والصحافة.

إن مصطلح جذب انتباه القارئ، وتحت شعار – حرية التعبير – لا يكون بتلك الطرق المجانبة للصواب، لقد درسنا الصحافة والسياسة في بلاد الإسلام، وفي البلاد الغربية، وما سمعنا ولا قرأنا ولا علّمنا أساتذة الإعلام أن هذا المصطلح الصحفي يجب أن يستخدم على حساب المبادئ والقيم، والقوانين السائدة في المجتمع، وإن مصطلح الحرية ليس مطلقاً بل مقيداً تقييداً يتناسب مع المصلحة العامة للمجتمع، وإلا أصبحت الحرية فوضى، والتعبير الحر هجوماً معلناً، فكيف ونحن نتعامل مع هذين المصطلحين في مجتمعات إسلامية تحكمها ضوابط الدين، والشرع، والأخلاق.

إن تلك المنابر الصحفية التي تسلقها أولئك الكتبة، ويفرضون على الناس آراءهم من خلالها؛ هي منابر لا يملكونها، بل هم كغيرهم من أفراد المجتمع أنيطت بهم مسؤولية إدارتها، أو الإشراف عليها، وليس من حقهم ولا من حق المجتمع عليهم أن يستغلوا تلك القنوات الإعلامية بدعوى حرية الرأي، وأن ينشروا ترهاتهم وفكرهم الدخيل على صفحات الرأي. أيها المسلمون:

تردد الصحافة العربية وأبواق الإعلام العربي بشكل عام مصطلحات دخيلة على مجتمعاتنا الإسلامية، غربية غريبة، تترجمها الصحافة العربية على عواهنها بدون تمحيص ولا غربلة لمدلوله مثل: الأصولية، والإرهاب، والتطرف، ومعلوم أن هذه الألفاظ والمصطلحات إنما تطلق في سياق وصف الإسلاميين والجماعات الإسلامية. وإن من نافلة القول أن نؤكد هنا أن تلك المصطلحات وغيرها هي مصطلحات تتناقلها وسائل الإعلام الغربية، وتستقبلها وكالات الأنباء العربية، وتقوم بترجمتها حرفياً، وتضمينها في المادة الإعلامية المنشورة؛ فيجدها القارئ العربي تتصدر الأخبار والتحقيقات، والمقالات الصحفية التي يطالعون بها القراء بكرة وعشياً، ولئن تلقاها القارئ العادي بشعور بارد تجاهها إما لجهله بمصدرها، أو بمدلولها؛ إلا أنها تأخذ بعداً آخر حينما تتردد على ألسنة الكتاب وأصحاب النفوذ الإعلامي، وهذا ما وجدناه في ذلك التوجه الجديد بل الدخيل على صحافة المجتمعات الإسلامية، نسأل الله أن يهدي الجميع، وأن يصلح إعلام المسلمين إنه سميع مجيب، واستغفر الله لي ولكم إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين … أما بعد: فلقد قرأنا ما ينشره أولئك الكتبة فوجدنا فيه من سطحية في الطرح، وغثائية في الفكر، وتقليدية غربية في الأسلوب، وقد اتبعوا في ذلك أسلوباً فظاً غليظاً في الحديث عن الدعاة وشباب الصحوة الإسلامية لم يخل من مغالطات شرعية يتحاشاها من ينتسب إلى الإسلام فضلاً عمن يدعي إصلاح المجتمع الإسلامي، فهم يصفون التدين والالتزام بالتطرف الأعمى، ويصفون الصحوة الإسلامية بالظاهرة الاجتماعية، ويصفون الدعاة إلى الله بأدعياء العلم، ويصفون الحق الذي هو غاية الدعاة بالخداع والتضليل، ويصفون طريقة العلماء في نشر العلم – عن طريق الكاسيت مثلاً – بأنها أساليب غير مشروعة، وعمموا الحكم على الجماعات الإسلامية ووصفوهم بأنهم إرهابيون، ويصفون الحريصين من طلبة العلم على متابعة الدروس والمحاضرات الدينية بالمتطرفين.

عباد الله:

تلك بعض من المصطلحات الدخيلة على عقيدة الأمة وفكرها التي ينشرها أمراض القلوب في شتى وسائل الإعلام بحجج واهية، وتحت شعار: حرية التعبير، فالرجوع إلى الحق، والتدين، والالتزام بمنهج الكتاب والسنة؛ يوصف بالتطرف الأعمى، والدعوة إلى هداية الناس ورجوع الشباب إلى الإسلام يسمى ظاهرة اجتماعية، ومن يستخدم هذا المصطلح يعرف مدلول الظاهرة الاجتماعية ومفهومها، واستخداماتها عند أساتذة الاجتماع، أما استخدام أشرطة الكاسيت وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيرية لنشر العلم، وإرشاد الناس، وتبصير الأمة وهدايتها؛ فذلك في نظر تلك الطائفة من حملة الأقلام الموبوءة أساليب غير مشروعة، وكأنهم قد نصبوا أنفسهم علماء بالحلال والحرام، والمشروع والممنوع، وتجاهلوا من يستخدم هذا النوع من الوسائل الإعلامية في نشر الفساد والرذيلة في المجتمعات الإسلامية، وسخروها للهو والغناء، ومبتذل القول ورخيصه، وطلبة العلم وشباب الصحوة في مفهوم تلك الشريحة من حملة الأقلام هم متطرفون، ولو ناقشت أحدهم في مفهوم التطرف فلن تجد عنده الجواب الشافي، بل سيقول لك: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته!

ثم انظر إلى أساليب التعبير الأخرى في مسيرة الإصلاح الإعلامي الذي يدعونه، مسيرة تصحيح العقيدة والمفاهيم في المجتمع الإسلامي، يصفون مشاعر الدعاة في نصرة الحق بأنها أصيبت بالهوس بعد أن تسلل إلى قلوبهم واهتماماتهم بأسلوب عاطفي يرفضه العقل والمنطق السليم! ثم إن هؤلاء الدعاة جاهلون بمواقف علماء الأمة من مجمل القضايا التي تخضع لأحكام العقيدة الصافية!

هذه هي جريمة الدعاة الذين وضعتهم تلك الطائفة من الصحفيين في قفص الاتهام بتهمة الجهل المدقع بالعلم الشرعي، وبفقه الواقع! وإننا نتساءل: من أين يؤخذ العلم الشرعي أمن صدور العلماء والدعاة أم من الأقلام الصحفية المأجورة؟

إن الذين يكتبون باسم الحرص على الدين، وباسم الحفاظ على المصلحة العامة؛ يجب عليهم أولاً أن يتبعوا تعاليم الدين، وأن يطبقوه في واقعهم حتى يكون لكلامهم القبول والاستحسان، وإن الذين يكتبون باسم الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والبعد عن التعصب والتشنج؛ لا بد أن يبدأوا بأنفسهم أولاً حتى لا يدعوا إلى ما يخالفونه، وأن يتدبروا منهج القرآن في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (سورة الأحزاب:70)، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (سورة المؤمنون:3) ويقول جل شأنه: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (سورة طـه:44)، ويقول تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (سورة الحج:30)، ويقول – جل وعلا -: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ (سورة الإسراء:53). وعليهم أن يتدبروا سنة المجتبى  في التنازع والتخاصم في الباطل حيث قال رسول الله  : مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ1.

إن في نصوص الكتاب والسنة معالم المنهج الأمثل للتفكير والحوار والخطاب، أما أن يُتخذ الإسلام ودعوى المحافظة عليه، والحرص على المصلحة العامة؛ ذريعة لإثارة الفتنة، وزرع بذور الفرقة والتمزق في المجتمع، ويكون ذلك مطية للنيل من الدعاة والناصحين بكل طرق القول السيء، والهجاء المقذع؛ فذلك أمر يرفضه الدين، ويمقته أقل الناس علماً، فضلاً عن الدعاة وطلبة العلم، وإن مخاطبة الأمة عبر الوسيلة الإعلامية بمادة مليئة بالمخالفات الشرعية، ومحاولة تطويع نصوص الشريعة لتحقيق الهوى والمآرب الشخصية من الانتقام للذات، ومحاربة للدين وأهله بدعوى الحرص عليه، والمحافظة على مصالح المسلمين، وكيل التهم، والتشهير بالدعاة إلى الله، والناصحين للأمة، واستخدام الأساليب المبتذلة والرخيصة في ذلك؛ إن ذلك كله مما ترفضه مجتمعاتنا الإسلامية جملة وتفصيلاً؛ لأنه باختصار يتعارض مع عقيدة المجتمع ودينه، وهو ما ينافي نظامه الإعلامي الذي يجب أن يستمد إطاره الكلي من قواعد الإسلام وأصوله، ذلك لأن الكلمة في إعلامنا ينبغي أن تكون قادرة على إيصال معناها إلى جماهير الأمة، فلا تنوء بحمل معانيها، وأن يراعى في اختيارها الأسلوب الأمثل في مخاطبة المسلمين، وهو أسلوب ينأى عن الكلمة النابية، واللفظة الرخيصة، واللغة الحادة أو المبتذلة المنافية للذوق الإنساني.

نسأل الله أن يلهم المسلمين رشدهم، وأن يرد الضالين منهم إليه مرداً جميلاً، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين2.


1 رواه أبو داود -3123- (9/496) وأحمد -5129- (11/165) وصححه الألباني في تحقيق سنن أبي داود برقم (3597).

2 مستفادة من مجلة البيان –العدد(61) رمضان 1413هـ مقال لـ/ د. محمد بن سعود البشر.