حقوق الطريق وآدابه
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثنى عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ذوي القدر العليِّ والشرف الكبير, والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين،
أما بعـد:
اتقوا الله عباد الله, وعظموا أمره، واشكروا نعمه، وأعظم هذه النعم وأجلها الهداية لهذا الدين: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}[الحجرات: 17].
أيها المسلمون:
إن شرائع الإسلام قد استوعبت شتى جوانب الحياة وشؤونها، وانظمت كل ما يعرض للمرء من مهده إلى لحده.
إن الدين الذي يبني أمةً ذات رسالة لتبقى قائدة رائدة صالحة لكل زمان ومكان، إن ديناً هذا شأنه لا يدع مجالاً في السلوك العام أو السلوك الخاص إلا وجاء فيه بأمر السداد. ومن هنا فلا عجب أن تدخل توجيهات الإسلام وأحكام الشريعة في تنظيم المجتمع في دقيقِه وجليلِه، في أفرادِه ومجموعِه وفي شأنِه كلِّه.
وإن مما يظهر فيه شمول هذا الدين وجلاء حكمه وأحكامه ما أوضحه الكتاب والسنة وآثار الأئمة من آداب الطريق ومجالس الأسواق وحقوق المارة، وأدب الجماعة.
جاء في محكم التنزيل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}[لفرقان: 63]، وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء: 38]، وفي السنة المطهرة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ))، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَر))1، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ, وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ, وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ, وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ, وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ, وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ))2.
إن مصادر الشريعة قد امتلأت بأمثال هذه النصوص مؤكدة هذه الحقوق ومرشدة إلى هذه الآداب. فعباد الرحمن هم خلاصة البشر، يمشون في الأرض هوناً، لا تصنُّع ولا تكلُّف ولا كبر ولا خيلاء، مشية تعبر عن شخصية متزنة، ونفس سوية مطمئنة تظهر صفاتها في مشية صاحبها، وقار وسكينة، وجد وقوة، من غير تماوت أو مذلة، تأسياً بالقدوة الأولى محمد صلى الله عليه وسلم فهو غير صخاب في الأسواق، حين يمشي يتكفأ، أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها، هكذا وصفه الواصفون صلى الله عليه وسلم. تلك هي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، يمضي إلى قصده في انطلاق واستقامة، لا يصعر خده استكباراً، ولا يمشي في الأرض مرحاً، لا خفق بالنعال ولا ضرب بالأقدام، لا يقصد إلى مزاحمه، ولا سوء أدب في الممازحة، يحترم نفسه في أدب جم، وخلق عال، لا يسير سير الجبارين، ولا يضطرب في خفة الجاهلية، إنه المشي الهون المناسب للرحمة في عباد الرحمن، وحين يسير مع الرفاق فلا يتقدم من أجل أن يسير الناس خلفه ولا يركب ليمشي غيره راجلاً.
عباد الله: إن غض الصوت وخفضه هو من سيما أصحاب الخلق الرفيع وذلك في الطريق وأدب الحديث أولى وأحرى، إنه عنوان الثقة بالنفس، وصدق الحديث وقوة الحجة، يصاحب ذلك حلم، وصلح وإعراض عن البذاء من القول والفحش من الحديث, تجنباً لحماقة الحمقى وسفاهة السفهاء لا يرفع صوته من غير حاجة إلا سيء الأدب ضعيف الحجة يريد إخفاء رعونته بالحدة من الصوت والغليظ من القول.
كذلك -أيها الإخوة المؤمنون- من سيما أصحاب الخلق الرفيع غض البصر فذلك حق لأهل الطريق من المارة والجالسين تحفظ حرماتهم وعوراتهم فالنظر يزيد الخطايا.
وإنك لترى في الطرقات والأسواق من يرسل بصره محملاً ببواعث الفتنة ودواعي الشهوة، وقد يتبع ذلك بكلمات وإشارات قاتلة للدين والحياء، مسقطة للمروءة والعفاف، وكف الأذى عن الطريق من أبرز الحقوق والواجبات.
أيها الناس: الأذى كلمة جامعة لكل ما يؤذي المسلمين من قولٍ وعمل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ))3. وحينما طلب أبو برزة رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه شيئاً ينتفع به قال: ((اعْزِلْ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ))4. وفي خبر آخر: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ))5.
عباد الله: إذا كان هذا الثواب العظيم لمن يكف الأذى، فكيف تكون العقوبة لمن يتعمد إيذاء الناس في طرقاتهم ومجالسهم، ويجلب المستقذرات وينشر المخلفات في منتزهاتهم وأماكن استظلالهم؟ أخرج الطبراني من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ))6.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ)) قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ))7.
أما إفشاء السلام -أيها المؤمنون- ابتداءً ورداً, فأدب كريم يتخلق به أبناء الإسلام وحق يحفظونه لإخوانهم، يغرس المحبة، ويزرع الألفة، ويغسل الأحقاد، ويستجلب به رضا الله وغفرانه، وفي الحديث: ((لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ))8.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على ما منح من الإنعام وأسدى، أحمده سبحانه وأشكره, وأتوب إليه وأستغفره من خطايا وذنوب لا تحصى عدا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أعظم به رسولاً وأكرم به عبداً، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه كانوا أمثل طريقة وأقوم وأهدى، والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
إن الجامع لآداب الطريق وحقوقه هي تلك الكلمة الجامعة المانعة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ويدخل في ذلك ما شئت من مكارم الأخلاق والآداب والمروءات.
فالحمل ثقيل ينوء به صاحبه فتعينه عليه، تهدي ابن السبيل الضال بعبارة ملؤها الأدب، وإشارة كلها لطف ورقة من غير فظاظة ولا ملال، لا تقول هجراً، ولا تنطق فحشا، والبشاشة والتبسم في وجه أخيك من الصدقات, تعين صاحب المتاع في حمل متاعه ورفعه ووضعه، تفض النزاع بين المتخاصمين وتصلح ذات البين، وتحفظ اللقطة، وتدل على الضالة، تعين على رد الحقوق لأصحابها، والذب عن أعراض المسلمين، والأخذ على أيدي الظالمين، ونصرة المظلومين، لا تتعرض لأحدٍ بأذى ومكروه، ولا تذكر أحداً بسوء.
لا تهزأ بالمارة ولا تسخر من العابرين، لا تشر ببنان، ولا تستطيل بلسان، لا تحتقر صغيراً، ولا تهزأ من ذي عاهة, كل ذلك من الآداب والأخلاق الإسلامية التي تحتاجه الأمة في كل مكان, ولو استغلت الطرقات لإحياء هذه الآثار الحسنة لعم الخير في الأمة.
إياك والجلوس في مضايق الطريق وملتقى الأبواب، ومواطن الزحام، وخاصة إذا كنت تقود سيارة -أياً كان نوعها- مع حفظٍ تامٍ لحقوق المشاة والراكبين والقاعدين وإهمال ذلك يصيب المسلمين بعناء عريض.
أمة الأدب والأخلاق: إن من الناس من يتخذ من الطرق وأماكن البيع مقاعد وأندية لتتبع العورات، وتمزيق الأعراض، ويحرجون أهل الأدب والمروءة، فضوليون يدسون أنوفهم فيما لا يعنيهم، إنه لا يحل لهؤلاء أن يجعلوا أماكنهم أوكاراً تمتد منها النظرات المحرمة، وطريقاً إلى الرذيلة والمقابلات المريبة، وقد ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ}[العنكبوت: 29]، فقال: ((كَانُوا يَخْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ, -أي يرمونهم بالحجارة- وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فَذَاكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَ))9.
وإن أمثال هذه المجالس يترفع منها الفضلاء وذو المروءات عن المرور بها, فضلاً عن الجلوس فيها؛ تلك أسواق لا يرتادها إلا الأراذل من الناس الذين لا يتحرجون من البذاء ولا يعرفون الاحتشام.
أيها المسلمون: إن من لم يعط الطريق حقه يتبع نفسه هواها، ويريد أن يملأ عينه بمناها، فيذل بعد عز، ويفسق بعد عظة، وينحدر بعد الكمال.
إن هذه المواطن إن لم ترع فيها الآداب الإسلامية فهي مرتع خصيب للغيبة والنميمة والسخرية والكذب والإفك المبين.
عباد الله: اعلموا أن من أولى الآداب وأكرم الأعمال في الطريق وفي كل الأحوال الاشتغال بذكر الله كثيراً، ففيه الانبعاث على الخيرات، والعون على الطاعات، والقيام بالحقوق وحفظ النفس من الشيطان.
جاء في حديث عند الترمذي وصححه واللفظ له وعن أبي داود وغيره عن أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ قَالَ -يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ- بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يُقَالُ لَهُ كُفِيتَ وَوُقِيتَ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ))10.
ولا ينبغي أن يغفل المسلم عن الدعاء المأثور عند خروجه من منزله أن يقول ما حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ))11.
والمرأة إن احتاجت للخروج خرجت محتشمة في لباسها، حيِّية في مشيتها، بعيدة عن حركات الريبة ومواضع التهم، غير متعطرة ولا متلفتة، سريعة العودة إلى منزلها بعد انقضاء حاجتها.
يقول الله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[النور: 31].
اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأفعال والأخلاق, لا يهدي لأحسنها إلا أنت, واصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت12.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ورفع راية الدين، وجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم عليك بالمتآمرين على الإسلام والمسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه, والحمد لله رب العالمين.
1 رواه مسلم (3960).
2 رواه الترمذي (1879) وابن حبان (530) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2908).
3 رواه مسلم (4745).
4 رواه مسلم (4747).
5 رواه البخاري (615) ومسلم (3538).
6 انظر المعجم الكبير للطبراني (2978)، وقال الألباني حديث حسن، صحيح الجامع (5923).
7 رواه مسلم (397).
8 روا ه مسلم (81).
9 رواه أحمد (26935)، وقال محققو المسند: (إسناده ضعيف لضعف أبي صالح مولى أم هانئ واسمه باذام ويقال: باذان). وقالوا في موضع آخر: (إسناده ضعيف).
10 رواه الترمذي (3348) وقال الألباني: (صحيح) انظر: التعليق الرغيب (2/264), الكلم الطيب (58/49).
11 رواه أبو داود (4430) والنسائي (5391), وابن ماجه (3874), وأحمد (5480), وانظر: صحيح الجامع (4709).
12 انظر: كتاب توجيهات وذكرى .. لـ(صالح بن عبد الله بن حميد).