دعوها فإنها منتنة

دعوها فإنها منتنة

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق كل شيء وأحكم، وصلى الله وسلم على النبي الأكرم، وعلى آله وصحبه الأقدم فالأقدم، ومن اهتدى بهديه وآمن وأسلم، أما بعد:

كثيراً ما ينسى الإنسان نفسه، وأنه خلق من ماء وطين، وأن جميع الناس مهما كانوا مثله من تراب، إذا به يرى لنفسه فضلاً على غيره، ولقبيلته شرفاً فوق القبائل، وتميزاً على الآخرين لا يوصف بحال، إلا مع الإطراء والثناء؛ حتى يؤدى حقها، عجباً! ألم يكن الله – تعالى – قد خلق كل دابة من ماء! فاستوت حينئذٍ في الأصل الدواب بما فيها الإنسان، والحيوان!.

إن الله كرم بني آدم وجعلهم قبائل وشعوباً، وامتن عليهم بهذه النعمة وهذا التكريم بقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (سورة الإسراء:70)، وقال مخاطباً لهم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (سورة الحجرات:13)، وهذه نعمة من الله تعالى ليسهل عليهم التعارف والتآلف، والتواد من خلال ذلك لا شك سيكون سهلاً – بإذن الله -.

عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنهما – قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ  فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ . فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ: فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ  : دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ1.

وهذا الحديث عباد الله: يذكر لنا دعوى الجاهلية الأولى التي جاء الإسلام ليطهرنا من درنها، ويذهب عنا رجسها، لما تنادى كلٌّ بعصبيته ودعا قبيلته، وهذه حكمة من النبي  حين عالج المشكلة في آنها، وقد كانت ظهرت شوكة النفاق، ولما أثير الخلاف بين المهاجري والأنصاري، ودعيا بدعوى الجاهلية حين قال الأول: يا للمهاجرين، وقال الثاني: يا للأنصار؛ كادت أن تشب نار الفتنة، وتظهر شرارها لولا أن منَّ الله على المؤمنين بالقدوة الحسنة، والحكمة النبوية تفجرت من فؤاده  تفجُّرَ الماء.

أيها المسلمون: إن الله  حين أنزل علينا القرآن جعله متآلفاً كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (سورة الزمر:23)، ولهذا نجده إذا عالج داء كانت آياته متكاملة متضافرة عليه، ولما أنزل الله سورة الحجرات، أنزلها لتعالج الفخر القبلي حين يخرج عن طوره، فقد ذكر المفسرون في أسباب نزولها أنه جاء بنو تميم إلى النبي  فنادوا على الباب يا محمد اخرج إلينا، فإن مدحنا زين، وإن ذمنا شين، فسمعهم النبي  فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمه شين، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله : ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا، فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك، وفضل قومك، فقام فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، ومن أكثرهم عدة ومالاً وسلاحاً، فمن أنكر علينا قولنا فليأتِ بقول هو أحسن من قولنا، وفعال هي خير من فعالنا. فقال رسول الله  لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجب فقام فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دعا المهاجرين والأنصار من بني عمه، أحسن الناس وجوهاً، وأعظمهم أحلاماً فأجابوا، فالحمد لله الذي جعلنا أنصاره، ووزراء رسوله، وعزاً لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا نفسه وماله، ومن أباها قتلناه، وكان رغمه من الله تعالى علينا هيناً، أقول قولي هذا، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، فقال الزبرقان بن بدر لشابٍ من شبانهم: قم يا فلان فقل أبياتاً تذكر فيها فضلك، وفضل قومك، فقام الشاب فقال:

نحن الكرام فلا حي يفاخرنا فينا الرؤوس وفينا يقسم الربعُ
ونطعم الناس عند القحط كلهم من السديف إذا لم يؤنس القزعُ
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد إنا كذلك عند الفخر نرتفعُ

قال: فأرسل رسول الله  إلى حسان بن ثابت، فجاء حسان فأمره رسول الله  أن يجيبه فقال حسان:

نصرنا رسول الله والدين عفوة على رغم سارٍ من معد وحاضرِ
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى إذا طاب وردُ الموت بين العساكرِ
ونضرب هام الدارعين وننتمي إلى حسب من جرم غسان قاهرِ
فلولا حياء الله قلنا تكرماً على الناس بالحقين هل من منافرِ
فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى وأمواتنا من خير أهل المقابرِ

قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: إني والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، وقد قلت شعراً فاسمعه، فقال: هات، فقال:

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا فاخرونا عند ذكر المكارمِ
وإنا رؤوس الناس من كل معشر وأن ليس في أرض الحجاز كوارمِ
وإن لنا المرباع في كل غارةٍ تكون بنجد أو بأرض التهائمِ

فقال رسول الله : قم يا حسان فأجب، فقال:

بني دارم لا تفخروا إن فخركم يعود وبالا عند ذكر المكارمِ
هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادمِ
وأفضل ما نلتم من المجد والعلى ردافتنا من بعد ذكر الأكارمِ
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن تقسموا في المقاسمِ
فلا تجعلوا لله ندًا وأسلموا ولا تفخروا عند النبي بدارمِ
وإلا ورب البيت مالت أكفنا على هامكم بالمرهفات الصوارمِ2

عباد الله: هذه القصة أوردت لكم بعضها لتعبر عما كان عليه العرب من الفخر بالانتساب إلى قبيلة ما، أو سلالة ما، وعجباً كيف غفلوا أن:

الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم، والأم حواء
فإن يكن لهم من بعد ذا نسب يفاخرون به، فالطين والماء3

وانظروا إلى الكلمة الذهبية، والدرة النبوية، والدعوة المصطفوية حين قال : ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، إنه خلق عظيم، وتمثيل للقدوة الحسنة، فهو الذي قال: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة، ولن يقول شيئاً إلا لحكمة شرعية، وقد ظهر أنه لم يبعث بالفخر والخيلاء، فالناس في دينه سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي ولا عجمي، ولا قائد ولا مقود، ولا غني ولا فقير، ولا كبير ولا صغير إلا بالتقوى، الناس في دينه سواء يفضل أتقاهم على غيره بالتقوى، ولو كان المتقي عبداً حبشياً، والمقصر سيداً قرشياً كان الفضل والإكرام لأعظمهما تقىً، وأزكاهما هدى، والعاقبة للمتقين.

اللهم اهدنا إلى طاعتك ورضاك، وسدد على طريق الخير خطانا، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.

عباد الله توبوا إلى الله، واستغفروه لعلكم تفلحون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله هادي الورى، وصلى الله وسلم على نبي الهدى، وعلى آله وصحبه ذوو التقى، أما بعد: عوداًَ على بدء، كما تبين لنا ما وقع من أسباب نزول سورة الحجرات، وهنا سنتأمل شيئاً يسيرًا من آياتها ومعانيها، وانظروا عباد الله إلى نهي الله – تعالى – عن السخرية والاستهزاء بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (سورة الحجرات:11)، وكأنه تعالى لما نهى عن هذه الأمور أراد بذلك أن يكسبنا الأدب الشرعي فيما بيننا، وأن يعلمنا أننا كلنا بشر، والتفاوت بيننا موجود، فعلام التفاخر والإنسان لا يدري أهو أفضل من أخيه أم أخوه أفضل منه، إذ العلم عند الله.

أيها المسلمون: انظروا إلى هذا الخطاب الرباني، والأدب العظيم الذي أرسى الله قواعده في نفوس المؤمنين؛ ليكونوا كالجسد الواحد لا تفاضل ولا تفاخر، بل أضاف بعد ذلك إخباره بأصل خلقتنا، وأننا من أب واحد، وأم واحدة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (سورة الحجرات:13)، وهذا منه – جل وعلا – تعليم للناس فيقول: إن أكرمكم عند الله أتقاكم له، فلا تفاخروا ولا تشاجروا، ولا تفاضلوا بغير التقوى.

أيها المسلمون: تأملوا في أثر هذا الأدب الإلهي كيف كان أثره في حياة النبي  وأصحابه الكرام  حين جاء وفد تميم يفخرون بآبائهم وأجدادهم وقبيلتهم، حين قال لهم رسول الرحمة : ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن لما رآهم أصروا على مفاخرته بآبائهم وقبيلتهم أراهم ما لديه من الخلق العظيم الكامن في نفوس الصحابة الكرام، فما إن تفاخر الفريقان، وقام خطيبهم يمجد جثث الموتى الهامدة؛ إذ صدع ثابت بن شماس بالكلام الحق الذي لا لغو فيه، حامداً لله، مستعيناً به، مفتخراً بدينه، وتوفيق الله لهم بنصرة نبيه، وإعلاء كلمته، وكفى بهذا فخراً وعلواً على العالمين، واستغفر لنفسه وللمؤمنين.

ولما قام شاعرهم يشيد كرام أهله، ومجد ذويه؛ قام حسان وروح القدس معه مفتخراً بصمودهم يوم الوغي في الجهاد في سبيل الله، ونصرة رسول الله، وأراهم كيف يكون الفخر الأصيل الذي هذبه دين الإسلام، حتى إذا كان الحق صادعاً، واليقين للباطل رادعاً؛ أعلن من هدى الله منهم إسلامه، وأمن من المسلمين إيلامه.

عباد الله: إن لنا برسول الله  أسوة وقدوة في سائر حياتنا، فلا فخر لنا غير الإسلام، ولا مجد لنا غير التقوى، ولا عز ولا رفعة دون كلمة التوحيد، فلتكن شعارنا ودثارنا، وليكن قولنا:

أبي الإسْلامُ لا أَبَ لِي سِوَاهُ إِذَا هَتَفُوا بِبَكْرٍ أَو تَميمِ
 بدعوى الجاهلية لم أجبهم ولا يدعوا بها غير الأثيم
دَعيُّ القَوْمِ يَنْصُرُ مُدَّعِيهِ فيُلْحقُهُ بذي النَّسَبَ الصَّميمِ
وما كَرَمٌ ولو شَرُفَتْ جُدُودٌ ولكنَّ التَّقِيَّ هو الكَرِيمُ4

كثير من الناس اليوم إلا من رحم الله إذا فتح لهم باب القبيلة والجماعة وما ينتمون إليه؛ أخذتهم صيحة العصبية، والحمية حمية الجاهلية، نزعهم الهوى إليه، وجذبهم الشيطان بين يديه، حتى خروا له سجداً وهم لا يشعرون، فنرى من يوالي ويعادي لأجل انتمائه القبلي، وكأنما الله سائله يوم القيامة: كيف نصرت جماعتك؟ أو كيف كبت خصمك؟ وهذا من أشنع الأمور، وأشنأ الطباع، فلا يليق بمسلم رضي بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالكعبة قبلة؛ أن يوالي لغير الله، أو يعادي لغير الله، أو يماري في الباطل، سيما والنبي  قال: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ5.

نسأل الله  أن يرشدنا إلى كل خير، وأن يعيذنا من العجب والغرور والجدل في ما لا يرضيه، وأن نقترف على نفوسنا سوءاً أو نجره إلى مسلم.

وصلى الله وسلم على رسوله الكريم، وعلى آله، وصحبه.


1 صحيح البخاري: (4525).

2 أسباب النزول للواحدي: (1/260)، تفسير البغوي: (7/338)، زاد المسير لابن الجوزي: (5/398)، تفسير النيسابوري: (7/39).

3 أوردها الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه: (2/365) من كلام علي بن أبي طالب  .

4 الشعر والشعراء لابن قتيبة: (1/117)، والبصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي: (1/477).

5 سنن أبي داود: (4067) من حديث أبي أمامة  ، وحسنه الألباني انظر: صحيح الترغيب والترهيب: (2648).