صلاة الجماعة في غير المسجد

صلاة الجماعة في غير المسجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد:

فإن الكلام على صلاة الجماعة يطول بنا، وحسبنا في هذا أن نتعرض لمسألتين مهمتين في هذا الموضوع هما:

المسألة الأولى: حكم الصلاة جماعة في غير المسجد؟

فمبنى القول فيها على خلاف أهل العلم في حكم صلاة الجماعة، فمن قال منهم بأن: صلاة الجماعة فرض على الأعيان، اختلفوا في صحتها في غير المسجد، فمنهم من قال: بأن الصلاة في غير الجماعة لا تصح، ومنهم من قال: بأن الصلاة تصح مع الإثم، وأما من قال: بأن صلاة الجماعة واجبة أو سنة يقولون بجوازها ومع الإثم ممن يقول بالوجوب.

وعلى كل حال الذي يظهر من خلال النظر في الأدلة الشرعية، أن الصلاة جماعة تصح في غير المسجد، ومن تلك الأدلة ما يأتي:

1- عن جابر بن عبد الله الأنصاري  قال: قال رسول الله  : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة1، فالحديث يدل على أن الصلاة تصح في أي مكان من الأرض، وهذا من خصائص أمة محمد .

2- وعن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أنها قالت: صلى رسول الله في بيته وهو شاك، فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما – فأشار إليهم – أن اجلسوا2.

ففي الحديث دلالة على صحة الصلاة جماعة في غير المسجد، ولو لم تصح لأمر النبي  الصحابة أن يذهبوا إلى المسجد؛ لأداء الصلاة لأنهم غير معذورين، فلما لم يأمرهم بالذهاب، وتركهم يصلون معه؛ دل على جواز الصلاة جماعة في غير المسجد.

3- وعن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: “شهدت مع النبي حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، قال: فلما قضى صلاته وانحرف، إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال: عليَّ بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة3.

هذا الحديث فيه دلالة قوية على أن النبي لم  ينكر عليهما أنهما صليا في رحالهما؛ بل أقرهما على ذلك، فدل على جواز الصلاة في غير المسجد وصحتها.

أما المسألة الثانية: هل صلاة الجماعة تضاعف أجرها إن كانت في غير المسجد؟

فقد اختلف العلماء في المقصود بالصلاة في غير المسجد، والتي تفضلها جماعة المسجد، فقال بعضهم: هي صلاة المنفرد، وقال آخرون: هي الصلاة خارج المسجد ولو في جماعة، ولكن الراجح أن الصلاة المفضولة عن صلاة المسجد هي صلاة الرجل جماعة في بيته، أو سوقه مع أهله أو ضيفه … الخ  فله أجر الجماعة، ولكن هذا الأجر لا يساوي أجر الجماعة في المسجد، كما أن الجماعة خارج المسجد خير من صلاة المنفرد، وإليك الأدلة على ذلك:

استدل القائلون بأن صلاة الجماعة يضاعف أجرها سواء كانت في المسجد أو في غيره بأدلة منها:

أولاَ: عن قباث بن أشيم الليثي  عن النبي قال: صلاة رجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى4.

الشاهد من الحديث: أنه لم يقيد الفضل بالصلاة في المسجد بل جاءت مطلقة في أي مكان، ويشهد لهذا الفهم حديث تضعيف الصلاة في الفلاة قال رسول الله : الصلاة في جماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة5؛ إذ لو كان من شرط التضعيف المسجد لما ضعفت في الفلاة.

ثانياَ: عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته، وفي سوقه؛ خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة،؛ لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة6.

فالحديث وارد في فضل صلاة الجماعة يشمل الجماعة في المسجد وفي غيره؛ إذ النص: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فصلاة الجماعة في غير المسجد لها فضلها، إلا أن الجماعة إذا أديت في المسجد كان ذلك مدعاة لمزيد من الأجر.

فالمقصود من قوله : صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته، وفي سوقه أي صلاته في بيته، وفي سوقه منفرداً لا جماعة، وإلى هذا الفهم ذهب الإمام النووي وابن حجر – رحمهما الله تعالى – حيث قال النووي في شرح صحيح مسلم في  قوله : صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه؛ بضعاً وعشرين درجة ‏المراد صلاته في بيته وسوقه منفرداً هذا هو الصواب، وقيل فيه غير هذا، وهو قول باطل نبهت عليه لئلا يغتر به”7.

ومن كلام الإمام النووي يفهم أن الصلاة في البيت والسوق جماعة يضاعف أجرها كما تضعف الصلاة في المسجد.

ويقول ابن حجر: قوله: في بيته، وفي سوقه قال ابن دقيق العيد: مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت، وفي السوق جماعة، وفرادى، والذي يظهر أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفرداً لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفرداً8.

وفي “عون المعبود شرح سنن أبي داوود”: وقوله: على صلاته في بيته‏: أي على صلاة المنفرد، وقوله: في بيته قرينة على هذا، إذ الغالب أن الرجل يصلي في بيته منفرداً9.

وقال في المجموع: قال الشافعي والأصحاب: ويؤمر الصبي بحضور المساجد وجماعات الصلاة؛ ليعتادها، وتحصل فضيلة الجماعة للشخص بصلاته في بيته أو نحوه بزوجة، أو ولد، أو رقيق أو غير ذلك، وأقلها اثنان كما مر10.

وفي مغني المحتاج: “(وما كثر جمعه) من المساجد كما قاله الماوردي، (أفضل) مما قلَّ جمعه منها، وكذا ما كثر جمعه من البيوت أفضل مما قلَّ جمعه منها، فالصلاة في الجماعة الكثيرة أفضل من الصلاة في الجماعة القليلة فيما ذكر قال : صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى11 رواه أبو داود وغيره وصححه ابن حبان وغيره.

وقضية كلام الماوردي أن قليل الجمع في المسجد أفضل من كثيره في البيت، وهو كذلك، وإن نازع في ذلك الأذرعي بالقاعدة المشهورة وهي: أن المحافظة على الفضيلة المتعلقة بالعبادة أولى من المحافظة على الفضيلة المتعلقة بمكانها؛ لأن أصل الجماعة وجدت في المسجد منفرداً، نعم لو كان إذا ذهب إلى المسجد وترك أهل بيته لصلوا فرادى، أو لتهاونوا أو بعضهم في الصلاة، أو لو صلى في بيته لصلى جماعة، وإذا صلى في المسجد صلى وحده؛ فصلاته في بيته أفضل12.

وبهذا السرد للأدلة على جواز صلاة الجماعة في غير المسجد، وتضعيف الأجر؛ يتبين لنا جواز صلاة الجماعة في غير المسجد، ومع ذلك لا يعني أنها تعدل الصلاة في المسجد، فللمسجد خصيصة ليست لأي مكان آخر، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.


1 رواه البخاري برقم (323) ومسلم برقم (810) واللفظ له.

2 رواه البخاري برقم (647).

3 رواه الترمذي برقم (203)، والنسائي برقم (849)، وأبو داود برقم (488).

4 رواه البيهقي في سننه الكبرى برقم (4745) وحسنه الألباني في صحيح الجامع.

5 رواه أبو داود برقم (473) وصححه الألباني في الترغيب والترهيب.

6 رواه البخاري برقم (611).

7 شرح صحيح مسلم للنووي (5 /165).

8 فتح الباري (2 /135).

9 عون المعبود (2 /186).

10 المجموع (4 /1621).

11 سبق تخريجه.

12 مغني المحتاج (1 /230).