أحكام المسافر والمريض في رمضان

أحكام المسافر والمريض في رمضان

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:

فإن الله قد امتن على عباده بمواسم الخيرات، فيها تضاعف الحسنات، وتُمحى السيئات، وتُرفع الدرجات، ومن أعظم هذه المواسم شهر رمضان الذي فرضه الله على العباد، ورغبهم فيه، وأرشدهم إلى شكره على فرضه.

ولما كان قدر هذه العبادة عظيماً كان لا بدّ من تعلّم بعض الأحكام المتعلقة بشهر الصيام، ومن هذه الأحكام ما يتعلق بالمسافر والمريض في الصيام، وهي شرح لما ورد في سورة البقرة في قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (184) سورة البقرة.

أولاً: المريض:

فقال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا}؛ يعني مرضاً يشق به الصوم؛ أو يتأخر به البرء؛ أو يفوت به العلاج. والمريض له ثلاث حالات:

الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ لأنه ليس له عذر يبيح الفطر، فيجوز الفطر ويجوز الصيام .

الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره، فيفطرُ لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(185) سورة البقرة.

ويُكْره له الصوم مع المشقَّةِ، لأنه خروجٌ عن رُخصةِ الله تعالى وتعْذيبٌ لنفسه، وفي الحديث: (إن الله يُحب أن تُؤتى رُخَصُه كما يكرهُ أن تؤتى معْصِيتُه).1 فلا ينبغي العدول عن رخصة الله.

الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء (29)، وقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة، ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم: (إنّ لنفْسك عليْك حقّا2 ومن حقها أنْ لا تضرّها مع وجود رخصة الله سبحانه. ولقوله صلى الله عليه وسلّم: (لا ضرر ولا ضرار).3

وإذا حدث له المرض في أثناء رمضان وهو صائم وشقّ عليه إتمامه جاز له الفطر لوجود المبيح للفطر.

وإذا برأ في نهار رمضان وهو مفطر لم يصحّ أنْ يصوم ذلك اليوْم؛ لأنّه كان مفطراً في أوّل النهار، والصوم الواجب لا يصحّ إلاّ منْ طلوع الفجر ولكنْ هل يلْزمه أنْ يمسك بقية يومه؟ فيه خلاف بيْن العلماء سبق ذكْره في المسافر إذا قدم مفطراً.

وإذا ثبت بالطّبّ أنّ الصوم يجلب المرض أو يؤخر برؤه جاز له الفطر محافظة على صحّته واتقاء للمرض، فإن كان يرجى زوال هذا الخطر، انتظر حتى يزول ثم يقضى ما أفطر. وإن كان لا يرجى زواله فحكمه الفطر ويطعم عن كلّ يوم مسكيناً.4

والمريض الذي أفطر من رمضان وينتظر الشفاء ليقضي ثم علم أن مرضه مزمن فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم أفطره.

ومن كان ينتظر الشفاء من مرض يُرجى برؤه فمات فليس عليه ولا على أوليائه شيء . ومن كان مرضه يُعتبر مزمنا فأفطر وأطعم ثم مع تقدّم الطبّ وُجد له علاج فاستعمله وشفي لا يلزمه شيء عما مضى لأنّه فعل ما وجب عليه في حينه.5

ومن مرض ثمّ شفي وتمكن من القضاء فلم يقض حتى مات أُخرج من ماله طعام مسكين عن كل يوم. وإن رغب أحد أقاربه أن يصوم عنه فيصحّ ذلك؛ لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليّه).6

ثانياً: المسافر:

المسافر في رمضان يجوز له أن يفطر، ويقضي عدد الأيام التي أفطرها، سواء دخل عليه الشهر وهو في سفره أو سافر في أثنائه لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر} (185) سورة البقرة. وفي الصحيحين عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: كنّا نُسافِرُ معَ النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يَعِبِ الصَّائمُ على المفطِرِ، ولا المفطِرُ على الصَّائمِ.7

والمراد بالمسافر؛ في قوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي السفر المبيح للفطر؛ والحكمة في التعبير بقوله: {على سفر} -والله أعلم- أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام، ويباح له الفطر؛ لأنه على سفر، وليست نيته الإقامة، كما حصل للرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح فإنه أقام في مكة تسعة عشر يوماً وهو يقصر الصلاة وأفطر حتى انسلخ الشهر. والمسافر باعتبار صومه في سفره له حالات ثلاث:

الحالة الأولى: أن لا يكون فيه مشقة إطلاقاً؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل؛ وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم في السفر؛ كما في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ؛ وما فينا صائم إلاَّ ما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن رواحة.

ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أسهل عليه غالباً لكون الناس مشاركين له، وثقلِ القضاء غالباً؛ واغتناماً لشرف الزمان.

وذهب الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم -رحمهم الله- إلى أن الفطر للمسافر أفضل، وإن لم يجهده الصوم أخذا بالرخصة، وللآية السابقة، وفي الحديث : (إن الله يحب أن تؤتى رخصه8 ولأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ثبت أن من الصحابة من يفطر إذا فارق عامر قريته، ويذكر أن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ والدليل عليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظُلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)9، فنفى النبي -صلى الله عليه وسلم- البر عن الصوم في السفر.

الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ ودليله: ما ثبت في الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فشُكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنهم ينتظرون ما يفعل؛ فدعا بماء بعد العصر، فشربه والناس ينظرون؛ ثم جيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقيل له: إن بعض الناس قد صام، فقال-صلى الله عليه وسلم-: (أولئك العصاة! أولئك العصاة!)10؛ والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم؛ أو ترك واجب. ثم بين أن من أفطر في رمضان لعذر شرعي، فإنَّ عليه القضاء بعد رمضان، فقال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي أيام مغايرة.

وقال بعض أهل العلم: الأفضل للمسافر فعل الأسهل عليه من الصيام أو الفطر لما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال : كانوا -يعني أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن ، ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن11، ولما في الصحيحين أَنَّ حمزةَ بنَ عمرو الأسلميَّ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أأصومُ في السفرِ؟ -وكان كثيرَ الصيامِ- فقال: (إنْ شِئتَ فصُم، وإن شِئتَ فأفطِر12 فإن شق عليه الصوم حرم عليه ولزمه الفطر كما سبق.13 بعض المسائل:

* إذا كان الصوم يسبب للصائم إغماء أفطر وقضى،14 وإذا أغمي عليه أثناء النهار ثم أفاق قبل الغروب، أو بعده فصيامه صحيح ما دام أصبح صائما، وإذا طرأ عليه الإغماء من الفجر إلى المغرب فالجمهور على عدم صحة صومه، أما قضاء المغمى عليه فهو واجب عند جمهور العلماء مهما طالت مدة الإغماء.15 وأفتى بعض أهل العلم بأن من أغمي عليه أو وضعوا له منوّماً، أو مخدراً لمصلحته فغاب عن الوعي فإن كان ثلاثة أيام فأقلّ يقضي قياساً على النائم، وإن كان أكثر لا يقضي قياساً على المجنون.16

* من أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد فخاف على نفسه الهلاك، أو ذهاب بعض الحواسّ -بغلبة الظن لا الوهم- أفطر وقضى؛ لأن حفظ النفس واجب، ولا يجوز الفطر لمجرد الشدة المحتملة، أو التعب، أو خوف المرض متوهماً، وأصحاب المهن الشاقة لا يجوز لهم الفطر، وعليهم نية الصيام بالليل، فإن كان يضرهم ترك الصنعة وخشوا على أنفسهم التلف أثناء النهار، أو لحق بهم مشقة عظيمة اضطرتهم إلى الإفطار فإنهم يُفطرون بما يدفع المشقة، ثمّ يُمسكون إلى الغروب ويقضون بعد ذلك، وعلى العامل في المهن الشّاقة كأفران صهر المعادن وغيرها إذا كان لا يستطيع تحمّل الصيام أن يحاول جعل عمله بالليل أو يأخذ إجازة أثناء شهر رمضان ولو بدون مرتّب، فإن لم يتيسّر ذلك بحث عن عمل آخر يُمكنه فيه الجمع بين الواجبين الديني والدنيوي {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) سورة الطلاق.17 وليست امتحانات الطلاب عذراً يبيح الفطر في رمضان، ولا تجوز طاعة الوالدين في الإفطار لأجل الامتحان؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.18

* من عزم على السفر في رمضان فإنه لا ينوي الفطر حتى يسافر؛ لأنه قد يعرض له ما يمنعه من سفره.19

* لا يُفطر المسافر إلا بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة (المأهولة)، فإذا انفصل عن بنيان البلد أفطر، وكذا إذا أقلعت به الطائرة وفارقت البنيان، وإذا كان المطار خارج بلدته أفطر فيه، أما إذا كان المطار في البلد أو ملاصقاً لها فإنه لا يُفطر فيه؛ لأنه لا يزال في البلد.

* إذا غربت الشمس فأفطر على الأرض، ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس لم يلزمه الإمساك؛ لأنه أتمّ صيام يومه كاملاً فلا سبيل إلى إعادته للعبادة بعد فراغه منها، وإذا أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس وأراد إتمام صيام ذلك اليوم في السفر فلا يُفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه من الجوّ، ولا يجوز للطيار أن يهبط إلى مستوى لا تُرى فيه الشمس لأجل الإفطار؛ لأنه تحايل لكن إن نزل لمصلحة الطيران فاختفى قرص الشمس أفطر.20

* من وصل إلى بلد ونوى الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام وجب عليه الصيام عند جمهور أهل العلم فالذي يسافر للدراسة في الخارج أشهراً أو سنوات فالجمهور ومنهم الأئمة الأربعة أنه في حكم المقيم يلزمه الصوم والإتمام.

وإذا مرّ المسافر ببلد غير بلده فليس عليه أن يمسك إلا إذا كانت إقامته فيها أكثر من أربعة أيام فإنه يصوم؛ لأنه في حكم المقيمين.21

* يجوز أن يُفطر مَن عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه كالبريد الذي يُسافر في مصالح المسلمين، وأصحاب سيارات الأجرة، والطيارين، والموظفين ولو كان سفرهم يومياً وعليهم القضاء، وكذلك الملاّح الذي له مكان في البرّ يسكنه، فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافراً فهذا لا يقصر ولا يفطر. والبدو الرحّل إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى جاز لهم الفطر والقصر، وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يُفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي.22

* إذا قدم المسافر في أثناء النهار ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء، والأحوط له أن يمسك مراعاة لحرمة الشهر، لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك23.24

بعض الفوائد من الآية:

1. أن المشقة تجلب التيسير؛ {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (184) سورة البقرة؛ وذلك أنَّ المرض والسفر مظنَّة المشقة.

2. جواز الفطر في السفر؛ لقوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (184) سورة البقرة؛ وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث سبق ذكرها في الشرح.

3. أن السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف؛ فما عده الناس سفراً فهو سفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنَّ تحديده بزمن أو مسافة يحتاج إلى دليل.

هذا ما تيسر جمعه في هذا الدرس، ونسأل الله تعالى أن يجعل صيامنا مبروراً، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. والحمد لله رب العالمين.


1 رواه أحمد (5866) وغيره،  قال شعيب الأرنؤوط: صحيح.

2 رواه البخاري (1867).

3 أخرجه الطبراني في الكبير برقم (1387) و مالك في الموطأ (1429) وغيرهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (250).

4 كتاب مجالس شهر رمضان: لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين ص(33).

5 فتاوى اللجنة الدائمة (10/195).

6 رواه البخاري (1851).

7 رواه البخاري (1845) ومسلم (1116) واللفظ للبخاري.

8 رواه الإمام أحمد (5866) قال الأرنؤوط صحيح..

9 رواه مسلم (1115).

10 رواه مسلم (1114).

11 السابق (1116).

12 رواه البخاري (1841) ومسلم (1121).

13 مقال لعبد الله القصير، نقلاً من: http://www.islamway.com  بتصرف.

14 الفتاوى لابن تيمية (25/217).

15 المغني مع الشرح الكبير (1/412)، (3/32)، والموسوعة الفقهية الكويتية (5/268).

16 نقلاً عن الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة، كما قال الشيخ محمد المنجد.

17 فتاوى اللجنة الدائمة (10/233-235).

18 فتاوى اللجنة الدائمة (10/241).

19 تفسير القرطبي (2/278).

20 من فتاوى الشيخ ابن باز، قال الشيخ المنجد: مشافهة.

21 انظر فتاوى الدعوة لابن باز (977).

22 انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (25/213).

23 مجموع الفتاوى (25/212).

24 نقلاً عن المصدر:  http://alzad.com/index.php?pg=artv&ref=324 بتصرف يسير.