دعوى الجاهلية

دعوى الجاهلية

دعوى الجاهلية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد جاء الإسلام والناس في جاهلية جهلاء، جاهلية في المعتقد، وجاهلية في العبادات، وجاهلية في المعاملات، وجاهلية في الأخلاق، جاهلية بكل ما تحمله كلمة جاهلية من معنى، فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجور والظلم إلى القسط والعدل، ومن المعتقدات الفاسدة إلى العقيدة الصحيحة، عقيدة خلاصتها "لا معبود بحق إلا الله"، ومن الأخلاق المنحلة إلى الأخلاق الحسنة.

جاء الإسلام فوضع الضوابط، وقعد القواعد، وأصل الأصول، لحياة البشرية؛ ومن القواعد التي وضعها الإسلام: أنَّه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى؛ فعن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق، فقال: (يا أيها الناس: ألا إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلَّغت؟). قالوا: بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-1..

جاء الإسلام وكان أصحاب الجاهلية لديهم بعض الأخلاق الحسنة من نجدة للملهوف، وإكرام للضيف، ونصرة للمظلوم، وغير ذلك، فجاء الإسلام لتثبيت ذلك والحث عليه.

وفي المقابل جاء وفي الناس أخلاق جاهلية وقبيحة، وأفعال مستهجنة، ومن الأخلاق الجاهلية التي جاء الإسلام وهي موجودة: "خلق العصبية للقبيلة، ودعوى الجاهلية، ولذلك فقد نفّر الدين الحنيف من ذلك كله؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غَزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمعها الله رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ( ما هذا؟). فقالوا: كَسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دعوها فإنها منتنة)2.

حقاً إن مثل هذه الدعوات دعوات منتنة؛ بل هي دعوة جاهلية ليس لها محل في قاموس الإسلام، فهذا أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- يقول له النبي -عليه الصلاة والسلام- لما بلغه أنه عير بلالاً بأمه: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية)3 أي ما زال فيك خصلة من خصال الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأحساب، ويطعنون في الأنساب؛ كما جاء في الحديث الصحيح: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)4.

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)5.

إخواني: اعلموا أنه "كل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية"6.

"فالدعاء بدعوى الجاهلية، والتعزي بعزائهم؛ كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب، ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ وتفضيل بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونه منتسباً إليه فيدعو إلى ذلك، ويوالي عليه ويعادي عليه، ويزن الناس به؛ كل هذا من دعوى الجاهلية"7.

وأعلم -أخي- أن أكرم الناس عند الله أتقاهم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} سورة الحجرات(13). وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- من أكرم الناس عند الله، فقال: (أكرمهم عند الله أتقاهم)8. فبتقوى الله -عز وجل- تكون الولاية من الله للعبد؛ قال الله -تعالى-: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} سورة يونس(62) (63). وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جهاراً غير سراً، يقول: (إنَّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنَّما وليي الله وصالح المؤمنين)9، ولذلك فإنَّ النسب الشريف، أو الحسب الرفيع؛ بدون تقوى الله -عز وجل- لا ينفع، والنسب الوضيع مع وجود التقوى أفضل وأشرف من النسب الرفيع بدون تقوى؛ فهذا بلال الحبشي لما أسلم وحقق التقوى لله رفع الله قدره، وأعلى منزلته، بل وسمع النبي-صلى الله عليه وسلم- دف نعليه في الجنة10، وهذا سلمان الفارسي لما خالط الإيمان قلبه، واتقى خالقه، وخاف سيده ومولاه أيضاً رفعه الله.. وفي المقابل هذا أبو لهب القرشي لما كفر وطغى، ولم يعبد الملك الأعلى، وضعه الله في الدنيا والأخرى، وأنزل فيه آيات تتلى إلى يوم القيامة، قال الله -تعالى-: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} سورة المسد(1).

لعمُركَ ما الإِنسانُ إِلا بدينهِ *** فلا تتركِ التقوى اتكالاً على النَّسَبْ

فقد رفعَ الإسلامُ سلمانَ فارسٍ *** وقد وَضَعَ الشِّرْكُ الشريفَ أبا لهب11

ويقول أبو العتاهية:

أَلاَ إنّما التَّقْوَى هو العزّ والكَرَمْ *** وحُبُّك للدّنيا هو الفقر والعَدَمْ

وليس على عبدٍ تَقِيٍّ نقيصةٌ *** إذا صحّح التّقوى وإِن حاك أو حَجَم

ولما فاخره رجل من كنانة، واستطال الكناني بقوم من أهله، فقال أبو العتاهية:

دَعْنَي من ذِكْـرِ أبٍ وجَدِّ *** ونَسَـبِ يُعْلِيكَ سُورَ المجدِ

ما الفخرُ إلا في التُّقَى والزُّهدِ *** وطاعةٍ تُعطي جِنَان الخُلْدِ12

فلزاماً علينا أن نتقي الله، وأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن نردع أصحاب النعرات الجاهلية، وأن نعمل بالحق ونصدع به، ولنقل لأصحاب الدعوات الجاهلية: (دعوها فإنها منتنة!).

والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1  أخرجه أحمد، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح.

2 رواه البخاري.

3 رواه البخاري ومسلم.

4 أخرجه مسلم من حيث أبي مالك الأشعري.

5 رواه البخاري ومسلم.

6 السياسة الشرعية، لابن تيمية، صـ(113). الناشر: دار المعرفة..

7 زاد المعاد في هدي خير المعاد، لابن القيم (2/428). ط: مؤسسة الرسالة.

8  أخره البخاري ومسلم.

9 أخرجه مسلم.

10 الحديث في ذلك أخرجه البخاري.

11 يراجع: مجمع الحكم والأمثال.

12 يراجع: الأغاني(4/7) لأبي الفرج الأصفهاني. الناشر: دار الفكر –بيروت. ط(2)..