أقسام الناس بعد سماع الموعظة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أساليب الدعوة إلى الله كثيرة ومتنوعة، ومن هذه الأساليب أسلوب الموعظة الحسنة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} سورة النحل(125). قال البغوي: "يعني مواعظ القرآن. وقيل: الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب. وقيل: هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف"1.
فبالموعظة الحسنة يُعلم الجاهل، ويُذكر الغافل، ويرد الشارد، ويوقظ أصحاب الضمائر، وتوجل القلوب المؤمنة، وتذرف العيون الباكية، بل إن المواعظ كما يقول ابن رجب -رحمه الله-: "سياط تضرب القلوب، فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثره في حال وجوده، لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته وضعفه، فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر".
ولكن هذه المواعظ: لا تنفع إلا إذا خرجت من القلب، فإنها تصل إلى القلب، فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى".
والناس بعد سماع الموعظة ينقسمون إلى عدة أقسام:
فمنهم من يرجع -بعد سماع الموعظة- إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر، ولا يزداد هدى، ولا يرتدع عن رديء، وهؤلاء أشر الأقسام، ويكون ما سمعوه حجة عليهم، فتزداد به عقوبتهم وهؤلاء الظالمين لأنفسهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} سورة النحل(108).
ومنهم من ينتفع بما سمعه، وهم على أقسام: فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات، ويوجب له التزام الواجبات، وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين، ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات، والتورع عن دقائق المكروهات، ويشتاق إلى إتباع آثار من سلف من السادات، وهؤلاء السابقون المقربون.
وينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلة عنه إلى ثلاثة أقسام: فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها، فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر من استحضار عظمة الله وجلاله وكبريائه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وخشوا لكمال معرفتهم وشدة خوفهم أن يكون نفاقاً، فأعلمهم النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه ليس نفاق. وفي صحيح مسلم عن حنظلة أنه قال: يا رسول الله نافق حنظلة، قال: (وما ذاك؟) قال: نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا رجعنا من عندك عافسنا الأزواج والضيعة، ونسينا كثيراً، فقال: (لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة). وفي رواية له أيضاً: (لو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق).
ومعنى هذا: أنّ استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جداً، ولا يقدر كثير من الناس أو أكثرهم عليه، فيكتفي منهم بذكر ذلك أحياناً، وإن وقعت الغفلة عنه في حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة، ولكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك، بل يلوم نفسه عليه، ويحزنه ذلك من نفسه، العارف يتأسف في وقت الكدر على زمن الصفا، ويحن إلى زمان القرب والوصال في حال الجفا.
وقسم آخرون يستمرون على استحضار حال مجلس سماع الذكر فلا يزال تذكر ذلك بقلوبهم ملازماً لهم، وهؤلاء على قسمين:
أحدهما: من يشغله ذلك عن مصالح دنياه المباحة، فينقطع عن الخلق فلا يقوى على مخالطتهم، ولا القيام بوفاء حقوقهم، وكان كثير من السلف على هذه الحال؛ فمنهم من كان لا يضحك أبداً، ومنهم من كان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد.
والثاني: من يستحضر ذكر الله وعظمته، وثوابه وعقابه بقلبه، ويدخل ببدنه في مصالح دنياه من اكتساب الحلال والقيام على العيال، ويخالط الخلق فيما يوصل إليهم به النفع مما هو عبادة في نفسه؛ كتعلم العلم، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء أشرف القسمين، وهم خلفاء الرسل، وهم الذين قال فيهم علي -رضي الله عنه-: "صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى".
وقد كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الذكر يتغير ثم يرجع بعد انقضائه إلى مخالطة الناس والقيام بحقوقهم، ففي مسند البزار ومعجم الطبراني عن جابر -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي، قلت: نذير قوم، فإذا سرّي عنه فأكثر الناس ضحكا، وأحسنهم خلقا.
وفي مسند الإمام أحمد عن علي أو الزبير قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه وكأنه نذير جيش يصحبهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكاً حتى يرتفع عنه.
وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه، وعلا صوته، كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم.
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا النار) وأشاح ثم قال: (اتقوا النار) ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة).
وسئلت عائشة كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خلا مع نسائه؟ قالت: كان كرجل من رجالكم إلا أنه: كان أكرم الناس، وأحسن الناس خلقا، وكان ضحاكاً بساماً.
فهذه الطبقة خلفاء الرسل عاملوا الله بقلوبهم، وعاشروا الخلق بأبدانهم.2
وقد كان أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا سمعوا الموعظة تأثروا تأثراً بليغاً، فتوجل قلوبهم، وتذرف عيونهم؛ وشاهد ذلك ما جاء في حديث أبي نجيح العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ– أي الأنياب- وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)3.
وهذه هي حالة الصادقين في إيمانهم أنهم إذا ذكِّروا بالله أو ذكروا الله وجلت قلوبهم، وفاضت عيونهم، واقشعرت جلودهم؛ يقول الله تعالى عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} سورة الأنفال(2). وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} سورة الحـج (34)(35). وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} سورة الزمر(23).
والله نسأل أن يجعلنا من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وتقوى، وعلماً وعملاً. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.