الرقى وأحكامها

الرقى وأحكامها

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنَّه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد كلما ذكره الذاكرون، وصلى عليه المصلون. اللهم صل وسلم عليه كلما غفل عنه الغافلون، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المؤمنون: إن الله -تعالى- يبتلي عباده بالأمراض والأسقام، والجوع والخوف، فمن صبر واحتسب كثر الله حسناته، ووفاه أجره بغير حساب، ويثني عليهم من عليائه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} البقرة(155- 157). ويُكفِّر الله بهذه الأمراض خطاياه وسيئاته، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مرض أو وجع يصيب المؤمن إلا حط الله سـيئاته كما تحط الشجرة ورقها"1. ويرفع الله به درجته، كما في قوله: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئـة"2.

والله -عز وجل-لم ينزل داءً إلا أنزل له دواء، ولكنه لم يجعل دواء الناس فيما حرمه عليهم، وسواء كان الدواء حسياً أو معنوياً، وأنجع الأدوية المعنوية التي أباحها الله، بل وشرعها للتداوي من الأمراض: الاستشفاء بالقرآن الكريم، قال الله -تعالى-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا}الإسراء(82).

والتداوي بالقرآن الكريم يسمى رقية، واعلم -أيها المسلم- أن الرقى منها ما هو جائز ومنها ما هو محرم.

أما الرقى الجائزة شرعاً فهي الرقى التي من القرآن والأدعية والتعاويذ الواردة في السنة؛ كما قال الإمام حافظ حكمي -رحمه الله-:

     ثم الرقـى من حمـة أو عين       فإن تكن من خالص الوحيين

      فذاك من هدي النبي وشرعته         وذاك لا اختلاف في سنيته3.

والأدلة على جواز هذا النوع من الرقى الكتاب والسنة، قال الله -عز وجل-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} الإسراء(82). وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} يونس(57). وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} فصلت(44). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: نهى رسول اللَّه عن الرُّقَى فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول اللَّه إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرُّقى، قال:  فعرضوها عليه، فقال: "ما أَرى بأساً، من استطاع منكم أَن ينفع أََخاه فلينفعه"4. وعن جابر بن عبد اللَّه يقول: رخص النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لآل حزم في رقية الحية وقَال لأَسماء بنت عميس: "ما لي أَرى أَجسام بني أَخي ضارعة تصيبهم الحاجة؟" قالت: لا ولكن العين تسرع إليهم قال: "ارقيهم". قالت: فعرضت عليه فقال: "ارقيهم"5

وعن عبد الله بن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه، فانصرف رسول الله وقال: "لعن الله العقرب ما تدع نبيَاً ولا غيره" قال: ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ويقرأ: "قل هو الله أحد، والمعوذتين، حتى سكنت"6. وعن عائشة عن رسول الله: أنه رخص في الرقى من كل ذي حُمة 7. والحمة: السم. وعن عائشة قالت: كان رسول الله إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح: قال بإصبعه: هكذا. ووضع سفيان سبابته بالأرض، ثــم رفعها فقال: "باسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا"8.

أيها الناس: لقد اشترط العلماء لجواز الرقية المشروعة شروطاً من أهمها:

1-             أن تكون من الكتاب والسنة.

2-             أن تكون باللغة العربية، محفوظة ألفاظها مفهومة معانيها.

3-             أن يعتقد  أنها سبب من الأسباب لا ثأثير لها إلا بإذن الله9.

 وصفة الرقية الشرعية أن يضع المريض يده على موضع الألم فيقرأ شيئاً من القرآن أو من السنة على نفسه بنفسه، أو يقرأ الراقي شيئاً من الكتاب أو من السنة على المريض، أو يقرأ في ماء ونحوه مع النفث الخالي من البزاق ثم يعطى المريض، لما جاء في حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه قال: قدمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبي وجع قد كاد يبطلني فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر، سبع مرات". فقلت ذلك فشفاني الله10. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أما النوع الثاني من أنواع الرقى فهي الرقى الشركية المحرمة، والتي يمكن وصفها بأنها الرقية التي لم تتوفر فيها الشروط السابقة الذكر، قال حافظ حكمي:

أما الرقـى المجهـولة المعـاني            فذاك وسواس من الشيطان

               وفيه قـد جـاء الحـديث أنه           شرك بلا مرية فاحــذرنه

إذ كل من يقـوله لا يـدري            لعلـه يكـون محض الكفر

   أو هو من سحر اليهـود مقتبس            على العـوام لبسـوه فالتبس11.

 فالرقى التي لم تكن من الكتاب والسنة، أو كانت بلغة غير مفهومة، أو اعتقد أنها تضر أو تنفع من دون الله لهي من الشيطان التي يوحيها إلى أوليائه، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} الأنعام(121).

ولعمر الله لقد انهمك غالب الناس في هذه البلوى غاية الإنهماك، واستعملوه على أضرب كثيرة وأنواع مختلفة، فمنه ما يدعون أنه من القرآن أو من السنة ومن أسماء الله المثبتة فيها، وأنهم ترجموه هم من عند أنفسهم بالسريانية أو العبرانية أو غيرها وأخرجوه عن اللغة العربية، ولا أدري إن صدقناهم في دعواهم، أهم يعتقدون أنه لا ينفع إذا كان باللغة العربية التي نزل بها القرآن، وتكلم بها النبي بالسنة التي يترجمونها بالأعجمية؟ أو أنهم يعتقدون أنه بالأعجمية أنفع منه بالعربية؟ أو أنه ينفع بالعربية لشيء وبالأعجمية لغيره ولا تصلح إحداهما فيما تصلح فيه الأخرى؟ أم ماذا زين لهم الشيطان وسولت لهم أنفسهم، أم ماذا كانوا يفترون؟ ومما يزعمون أنه من أسماء الله -تعالى- التي ليست في الكتاب ولا في السنة وأنهم علموها من غيرهما فمنه: ما يدعون أنه دعا به آدم -عليه السلام- أو نوح أو هود أو غيرهم من الأنبياء، ومنه ما يقولون إنه ليس إلا في أم الكتاب!! ومنه ما يقولون هو مكتوب في البيت المعمور!! ومنه ما يقولون هو مكتوب على جناح جبريل -عليه السلام-!! أو جناح ميكائيل أو جناح إسرافيل أو غيرهم من الملائكة، أو على باب الجنة، أو غير ذلك!. وليت شعري متى طالعوا اللوح المحفوظ فاستنسخوه منه؟! ومتى رقوا إلى البيت المعمور فقرؤوه فيه!؟ ومتى نشرت لهم الملائكة أجنحتها فرأوه!؟ ومتى اطلعوا إلى باب الجنة فشاهدوه؟!! كلما شعوذ مشعوذ.. وتحذلق متحذلق.. وأراد الدجل على الناس والتحيل لأخذ أموالهم طلب السبل إلى وجه تلك الحيلة، ورام لها أصلاً ترجع إليه، فإن وجد شبهة تروج على ضعفاء العقول وأعمياء البصائر وإلا كذب لهم كذباً محضاً، وقاسمهم بالله إنه  لهم لمن الناصحين! فيصدقونه لحسن ظنهم به، ومنه: أسماء تارة يدَّعون أنها أسماء الملائكة، وتارة يزعمون أنها من أسماء الشياطين، واعتقادهم في هذه الأسماء أنها تخدم هذه السورة أو هذه الآية، أو هذا الاسم من أسماء الله، فيقولون: ياخدام سورة كذا أو آية كذا أو اسم كذا، يا فلان ابن فلان ويا فلان بن فلان أجيبوا أجيبوا، العجل العجل ونحو ذلك. وما من سورة من القرآن ولا آية منه ولا اسم من أسماء الله يعرفونه إلا وقد انتحلوا له خداماً ودعوهم له، ساء ما يفترون. وتارة يكتبون السورة أو الآية ويكررونها مرات عديدة بهيئات مختلفة حتى يجعلون أولها آخرها وآخرها أولاً، وأوسطها أولاً في مواضع وآخرها في آخر. وتارة يكتبونها بحروف مقطعة كل حرف على حدته ويزعمون أن لها بهذه الهيئة خصوصية ليست لغيرها من الهيئات، ولا أدري من أين أخذوها وعمن نقلوها؟! ما هي إلا وساوس شيطانية زخرفوها، وخرافات مضلة ألفوها، وأكاذيب مختلفة لفقوها، لم ينزل الله بها من سلطان، ولا يعرف لها أصل في سنة ولا قرآن، ولم تنقل عن أحد من أهل الدين والإيمان. إن هؤلاء إلا كاذبون، أفَّاكون مفترون، وسيجزن ما كانوا يعملون.

وتارة يكتبون رموزاً من الأعداد العربية المعروفة من آحاد وعشرات ومئات وألوف وغيرها، ويزعمون أنها رموز إلى حروف آية أو سورة أو اسم أو شيء مما قد قدمنا بحساب الحروف الأبجدية المعروفة عند العرب وغير ذلك من الخرافات الباطلة، والأكاذيب المفتعلة المختلفة، وغالبها مأخوذ عن الأمة الغضبية -اليهود- الذين أخذوا السحر عن الشياطين وتعلموه منهم، ثم أدخلوا ذلك على أهل الإسلام بصفة أنه من القرآن أو السنة!!

  أو أسماء الله وأنهم إنما غيروا ألفاظه وترجموها بغير العربية لمقاصد لا تتم -بزعمهم- إلا بذلك، ومنها ما هو من عباد الملائكة والشياطين ونحوهم يأخذون أسماءهم ويقولون للجهال: هي أسماء الله ليروجوا الشرك بذلك عليهم فيعون غير الله من دونه، وهذه مكيدة لم يقدر عليها إبليس إلا بوساطة هؤلاء المضلين وهو: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}12. والله يقول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}13 {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} النــور (40) 14.

أسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يجنبنا طريق أهل الزيغ والضلال، وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


1 – أخرجه البخاري ومسلم.

2 – أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.

3 – انظر معارج القبول(2/501). دار ابن القيم للنشر والتوزيع الطبعة الثانية (1413هـ).

4 – رواه مسلم.

5 – رواه مسلم.

6 – أخرجه ابن ماجه وهو صحيح، انظر صحيح ابن ماجه للألباني (1030). والسلسلة الصحيحة (547) و(548).

7 – أخرجه البخاري ومسلم .

8 – أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة أحمد.   

9 – معارج القبول2/509).

10 – أخرجه مسلم. 

11 –  أنظر شرح معارج القبول2/507)

12 –  فاطر(6).

13 –  العنكبوت(51).

14 –  انظر الكلام السابق في معارج القبول للشيخ حافظ حكمي (2/503 – 509).