هل خص رجب بعبادة معينة

هل خص رجب بعبادة معينة؟!

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:

يقول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (التوبة:36)، وقال النبي : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القَعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان(1فالله تعالى قد شرع شرائع، وحدّ حدوداً، وأمرنا باتباع شرعه، وتجنب البدع في الدين، فالأمر لله وحده، والطاعة له سبحانه، والمتابعة لرسوله ، وإذا صدر أمر الله ورسوله فليس لنا خيرة: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (الأحزاب:36). عبد الله: لا شك أن لشهر رجب مكانة عند الله – تبارك وتعالى -، فهو أحد الأشهر الحرم التي كرَّمها الله – جل ذكره – في كتابه، ونهى الناس عن الظلم فيها، ولا يعني هذا أنه يجوز تخصيصه بعبادة معينة دون غيره من الشهور؛ لأنه لم يثبت عن النبي  شيء من ذلك، وقد قرر العلماء أن تخصيص العبادات بأوقات لم يخصّصها بها الشرع لا يجوز لأنه لا فضل لأي وقت على وقت آخر إلا ما فضله الشرع.

والعبادات توقيفية؛ لا يجوز فعل شيء منها إلا إذا ورد دليل من الكتاب وصحيح السنة، ولم يصح عن النبي  في تخصيص رجب بعبادة معينة حديث صحيح كما نصَّ على ذلك كبار العلماء قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: “لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه .. حديث صحيح يصلح للحجة”.

أيها المسلمون: إن النبي  لم يعمل عملاً، أو يقول قولاً، أو يقرر تقريراً، إلا ونقله صحابته رضوان الله عليهم إلى الناس، حتى ما كان يعمله داخل بيته فقد نقلنه أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن – للناس، إلا ما كان منه سراً، ولهذا فقد تركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

إن صحابة رسول الله  لم يتوانوا، أو يتكاسلوا، أو يخفوا – حاشا لله -، شيئاً، علَّمهم رسول الله  وإنما بلغوه بأبلغ بيان، وأفصح لسان، وأحسن تعبير، فسافروا في البلدان، ونزلوا إلى الأمصار لكي يبلغوا دين الله، وجاهدوا في سبيل الله من أجل نشر دين الحنيفية السمحة، كل ذلك أداءً للأمانة والمسئولية التي حُمِّلوها.

أيها المسلمون: إن كثيراً من المسلمين اليوم – إلا من رحم الله – قد انجر بعد البدع، والخرافات، والشركيات التي ما أنزل الله بها من سلطان بحجة أن رسول الله  كان يفعلها، وأن صحابته كانوا يعملونها، وأن من بعدهم حافظوا عليها كل ذلك بهتاناً وزورا، فقد رويت لنا أفعاله  كلها صغيرها وكبيرها، في جميع الشهور، وعلى مدى الأيام، بل كل حياته محفوظة للناس يعلمها كل من أراد الحق وبحث عنه.

إن رسول الله  لم يثبت عنه أنه خص رجب بعبادة تذكر على غيره من الشهور، أو أنه فضله بفضيلة، أو قال فيه قولاً، أو أقر صحابي على عمل من الأعمال فيه يختص بهذا الشهر عن غيره، وإنما كانت عبادته في رجب كعبادة في شعبان وغيره من الشهور، وإنما تعود أفضلية شهر رجب كونه من أشهر الله الحرم. أخي الكريم: روي أن الإمام عبد الله الأنصاري شيخ خراسان كان لا يصوم رجب وينهى عن ذلك ويقول: “ما صح في فضل رجب، ولا في صيامه عن رسول الله  شيء”.

وقد رويت كراهة صومه عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر، وعمر – رضي الله عنهما -، وكان عمر يضرب بالدرة صوامه، ويقول: “إنما هو شهر كان أهل الجاهلية يعظمونه”(2)، وكان ابن عباس  – رحمه الله – يكره صيامه (أي رجب)، وروى ابن وضاح أن عمر بن الخطاب  كان يضرب الرجبين الذين يصومون رجب كله، وروي أن ابن عمر – رضي الله عنهما – كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه، وقال: “صوموا وافطروا، فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهيلة”.

وعن أبي بكر  أنه دخل على أهله وقد أعدوا لرجب فقال: ما هذا؟ فقالوا: لرجب نصومه، فقال: أجعلتم رجب كرمضان(3).

فإن قيل أليس هذا هو استعمال خير قيل له: استعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعاً من النبي ، فإذا علمنا أنه كذب خرج من المشروعية، وإنما كانت تعظمه الكفار في الجاهلية.

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: “لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه … حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره. أ هـ، وقال أيضاً: وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو في فضل صيامه، أو صيام شيء منه صريحة: فهي على قسمين: ضعيفة ، وموضوعة…” أ هـ(4)

فمن أحدث فيه عبادة من العبادات وخصه بها؛ فإنه يكون مبتدعاً؛ لأنه أحدث في الدين ما ليس منه، والعبادات توقيفية؛ لا يقدم على شيء منها؛ إلا إذا كان له دليل من الكتاب والسنة، ولم يرد في شهر رجب بخصوصيته دليل يُعتمد عليه، وكل ما ورد فيه لم يثبت عن النبي ، بل كان الصحابة – رضوان الله عليهم – ينهون عن ذلك، ويُحذَّرون من صيام شيء من رجب خاصة، أما الإنسان الذي له صلاة مستمر عليها، وله صيام مستمر عليه؛ فهذا لا مانع من استمراره في رجب كغيره، ويدخل تبعاً(5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “أما تخصيص رجب، وشعبان جميعاً بالصوم، أو الاعتكاف؛ فلم يرد فيه عن النبي  شيء، ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح أن رسول الله  كان يصوم إلى شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان من أجل شهر رمضان، وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات(6).

قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: “ولم يصم  الثلاثة الأشهر سردا (أي رجب، وشعبان، ورمضان) كما يفعله بعض الناس، ولا صام رجباً قط، ولا استحب صيامه”(7) قال ابن رجب – رحمه الله -: “وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي ، ولا عن أصحابه”8)

وفي فتاوى اللجنة الدائمة : “أما تخصيص أيام من رجب بالصوم فلا نعلم له أصلاً في الشرع”.

أما العمرة فلم تدل الأحاديث على أن النبي  اعتمر في رجب، ولهذا كان من البدع المحدثة في مثل هذا الشهر تخصيص رجب بالعمرة، واعتقاد أن العمرة في رجب فيها فضل معيّن قال الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله – في فتاويه: أما تخصيص بعض أيام رجب بأي شيء من الأعمال كالزيارة وغيرها فلا أصل له لما قرره الإمام أبو شامة في كتاب “البدع والحوادث” وهو أن تخصيص العبادات بأوقات لم يخصّصها بها الشرع لا ينبغي، إذ لا فضل لأي وقت على وقت آخر غير ما فضله الشرع بنوع من العبادة، أو فضل جميع أعمال البر فيه دون غيره، ولهذا أنكر العلماء تخصيص شهر رجب بكثرة الاعتمار فيه، ولكن لو ذهب الإنسان للعمرة في رجب من غير اعتقاد فضل معيّن بل كان مصادفة أو لأنّه تيسّر له في هذا الوقت فلا بأس بذلك، دلت الأحاديث على أن النبي  لم يعتمر في رجب كما ورد عن مجاهد قال: “دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة – رضي الله عنها – فسئل: كم اعتمر رسول الله  قال: أربعاً، إحداهن في رجب، فكرهنا أن نرد عليه قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين (أي صوت السواك) في الحجرة، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال : يقول: إن رسول الله  اعتمر أربع عمرات إحداهنّ في رجب، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن! ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهد (أي حاضر معه)، وما اعتمر في رجب قط. متفق عليه، وجاء عند مسلم: وابن عمر يسمع فما قال: لا، ولا نعم، قال النووي : سكوت ابن عمر على إنكار عائشة يدل على أنه كان اشتبه عليه، أو نسي، أو شك.

وقد سئل الشيخ ابن باز – رحمه الله – يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات كصلاة الرغائب، وإحياء ليلة (27) منه، فهل ذلك أصل في الشرع؟ فأجاب: تخصيص رجب بصلاة الرغائب، أو الاحتفال بليلة (27) منه؛ يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج، كل ذلك بدعة لا يجوز، وليس له أصل في الشرع، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم، وقد كتبنا في ذلك غير مرة، وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب(9).

قال ابن رجب – رحمه الله -: “شهر رجب مفتاح أشهر الخير والبركة، فجدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة، وبمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر10.

أسأل الله أن يثبتنا على السنة، وأن يجنبنا البدع، وأن يهدينا سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين،


1 رواه البخاري ومسلم .

2– وصححه الألباني في الإرواء رقم (957).

3– راجع: الباعث على إنكار البدع ص(52).

4– انظر: كتاب تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب للحافظ ابن حجر ص6 وص8, وكتاب السنن والمبتدعات للشقيري ص125.

5– المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان الجزء الأول 222- .223

6– مجموع الفتاوى (25/290).

7– زاد المعاد (2/61).

8– لطائف المعارف ص(131).

9نشرت في ( مجلة الدعوة ) العدد رقم ( 1566 ) في جمادى الآخرة 1417 هـ .

10– لطائف المعارف ص(135).