لماذا الحج

لماذا الحج

 لماذا الحج

 

 الحمد لله ذي النعم الكثيرة والآلاء, الغني الكريم الواسع العطاء, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام النجباء, وعلى أتباعهم في هديهم القويم إلى يوم الميعاد والمأوى, وسلم تسليماً مزيداً, أما بعد:

فإن العبادات في الإسلام بجانب أنها شعائر يؤديها المسلم -لكونها مفروضة عليه من ربّه, فليس عليه إلا الإذعان والخضوع والامتثال لأوامر الله وإظهار العبودية له- فهي أيضاً تحمل في حقيقتها معانٍ كثيرة، وترسخ أخلاقيات حسنة، وتثمر فوائد اجتماعية كريمة ومتعددة، تعود على المسلم والمجتمع بالخير الكثير.

 والحج بالتعبير الاقتصادي موسم تجارة، كما هو بالمفهوم الشرعي موسم عبادة، وهو الفريضة التي تلتقي فيها شؤون الدنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة القريبة والبعيدة… فأصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة؛ حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء من أطراف الأرض، ويَقْدم الحجيج من كل فجّ ومن كل قطر، معهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض، يتجمع كله في البلد الحرام في وقت واحد، فهو موسم تجارة ومعرض نتاج، وسوق عالمية تقام في كل عام، وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام, ويكون ذلك مثمراً ونافعاً يوم أن تصل البلاد الإسلامية إلى مستوى التميز والإنتاج، بحيث يحدث تبادل السلع والمصنوعات الإسلامية صناعةً وتحويلاً، وتنعكس تلك المنافع قوة للاقتصاد الإسلامي على مدى المعمورة، لا أن يكون الحجيج وسطاء أو (تجار حقيبة) لسلع الشرق والغرب, وعندئذ يكون الحج وسيلة للتعارف والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى، وتبادل السلع والمنافع والمعارف والتجارب الإسلامية الواقعية.

 ولا ينقص ذلك فهم بعضهم من أن الحج ليس مجرد رحلة عفوية يبدّد فيها المسلم وقته وجهده وماله، ولكنها رحلة يبدو فيها جلال التآخي والفوائد والمنافع الخلقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وهنا تبرز وتظهر أهداف الحج عظيمة، إذ هو امتثال لأمر الشرع، وهو زاد إيماني وتربوي، وهو أيضاً فرصة لتبادل المنافع.

 ولا شك في أن الله –سبحانه- بحكمته وعظمته اختار منذ خلق الإنسان هذا المكان الطيب الطاهر في مكة المكرمة؛ ليشرفه بخصوصية لم يفز بشرفها أي مكان في العالم، حين اختصه بأن يكون مقرّاً لبيته الحرام، ومحلَّاً لالتقاء وتجمّع المسلمين جميعاً من كل بقاع الدنيا، من الذين منّ الله عليهم فوهبهم الاستطاعة التي تؤهلهم لشرف تلبية نداء الله، فيقصدون هذا البيت العتيق, قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (96-97) سورة آل عمران. وحين نتأمل هذه الآية وما فيها من توجيهات ربانية نجد فيها المسائل التالية:

أولاً: إن الله تعالى لما أمر بالحج في قوله: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (27) سورة الحـج. اختُلف فيها، فبعضهم حملها على منافع الدنيا، وهي أن يتجر في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة، وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً، وهو الأَوْلى.

 ثانياً: إنما نكّر المنافع؛ لأن المراد -والله أعلم- منافع مختصة بهذه العبادة، دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادات.

يقول ابن الجوزي -رحمه الله- في كتابه (زاد المسير): "والأصح: مَنْ حملها على منافع الدارين جميعاً؛ لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإنما الأصل قصد الحج، والتجارة تبع)1.

ويقول عبد الكريم الخطيب في كتابه (التفسير القرآني): (والمنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام كثيرة متنوعة، تختلف حظوظ الناس منها، فهناك منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، وذلك بما يغشى الروح من هذا الحشر العظيم، الذي حُشر فيه الناس على هيئة واحدة في ملابس الإحرام مجرّدين من متاع الدنيا، وما لبسوا فيها من جاه وسلطان.

 ولقد أحسن النسفي -رحمه الله- في تصوير هذه الفريضة، وفى عقد الشبه بينها وبين الحياة الآخرة، حيث يقول: فالحاج إذا دخل البادية، لا يتكل فيها إلا على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة، وركب بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده.

نسأل الله تعالى أن يعيننا جميعاً على الخير، وأن يجنبنا الشر، وأن يرزقنا العافية في الدنيا والآخرة، والله أعلم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين2.


1 زاد المسير لابن الجوزي (4/379).

2 الموضوع مستفاد من مجلة البيان –العدد(112) ذي الحجة 1471هـ.