تعظيم بيوت الرحمن
الحمد لله القائل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}1، نحمده – تعالى – ونشكره أن هدانا للإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإن الله – عز وجل – هو العلي العظيم، العظمة صفته، وتعظيمه – تعالى – يكون بتبجيله وإجلاله، ويقتضي ذلك أيضاً تعظيم حرماته (وهي كل ما يجب احترامه، وحفظه، وصيانته، ورعايته)، ومن تعظيم حرمات الله – تعالى – تعظيم المقدسات والشعائر الدينية ومنها بيوت الله – تبارك وتعالى -، ومعرفة مكانتها، والسعي في عمارتها، وإقامة شرعه فيها، والمحافظة على الصلاة فيها، ورفعها عن الدنس والشرك قال – تعالى -: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}2، وحذر من انتهاك حرمات المساجد، أو التعدي على إقامة ذكر الله فيها، ونشر نور الهداية من على منابرها فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}3 قال الرازي في تفسيره لهذه الآية: "في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: في أحكام المساجد وفيه وجوه:
الأول: في بيان فضل المساجد، ويدل عليه القرآن، والأخبار، والمعقول، أما القرآن فآيات أحدها قوله – تعالى -: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً}4، فأضاف المساجد إلى ذاته بلام الاختصاص، ثم أكد ذلك الاختصاص بقوله: {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً}، وثانيها قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءَامَنَ بالله واليوم الأخر}5، فجعل عمارة المسجد دليلاً على الإيمان، بل الآية تدل بظاهرها على حصر الإيمان فيهم لأن كلمة "إنما" للحصر، وثالثها قوله: {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والأصال}6، ورابعها: هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله – تعالى -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} فإن ظاهرها يقتضي أن يكون الساعي في تخريب المساجد أسوأ حالاً من المشرك لأن قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} يتناول المشرك، لأنه – تعالى – قال: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}7 فإذا كان الساعي في تخريبه في أعظم درجات الفسق؛ وجب أن يكون الساعي في عمارته في أعظم درجات الإيمان.
وأما الأخبار فأحدها: ما روى الشيخان في صحيحيهما أن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك، وأحبوا أن يدعه، فقال عثمان – رضي الله عنه -: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((مَنْ بَنَى مَسْجِدًا – قَالَ بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ – بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ)) 8، وثانيها: ما روى أبو هريرة أنه – عليه الصلاة والسلام – قال: ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا))9.
المسألة الثانية: في فضل المشي إلى المساجد فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال – عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ؛ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً))10، وقال – عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ11))"12.
موقع بيوت الله من قلب المسلم:
ولم يكن شيءٌ في الوجود على قلب المسلم يلقى التقديس والتعظيم والإجلال مثل كتاب الله، وحرمات الله، وبيوت الله، فإن بيوت الله من شعائره التي يجب أن تعظّم، ولا يحتاج مسلم صادق توجهه إلى الله، وموثّق ارتباطه بدينه، لا يحتاج إلى مذكِّر له بتعظيم بيوت الله، وإنما يندفع اندفاعاً من تلقاء نفسه يعظِّم بيوت الله، ويصون حرمتها، ويحافظ على قدسيتها، إلاّ من شذّ ممن لا ينتبه من نفسه.
وقد أقام الإسلام تعظيم بيوت الله، وصيانة حرمتها، وإبقاء قدسيتها على ثلاثة أركان: ركن التقدير، وركن التطهير، وركن التعمير.
"ودعت الأحاديث فيما دعت إليه من تعظيم المساجد إلى تعلق القلوب بها، وارتباط الأنفس بصورتها ومضمونها، حتى تكون مهوى قلوب المؤمنين، وأماكن طواف أرواحهم فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ13))"14، فجعل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – جزاء من عظم المسجد، وهوت نفسه له، وتاقت إليه؛ بأن يدخل ضمن من يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله جزاء صنيعه في الدنيا.
ولذا ينبغي علينا أن نعرف ما معنى تعظيم المساجد؟
– إن تعظيم المساجد ليس مجرد شعور فقط، بل إن من تعظيم المساجد احترامها، وعدم العبث بها، ومنه تطهيرها وتنظيفها؛ فعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة – رضي الله عنها – "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر بالمساجد أن تبنى في الدور، وأن تطهر وتطيب"15، ولهذا فإنه ينبغي على من يرتاد المسجد أن يتهيأ لها، ويتطهّر ويتطيّب، ويتزّين ويتجمّل، ويتخذ كل زينة، ولسان حاله امتثال الأمر {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}16.
– ومن تعظيم المساجد عمارتها، وقد وصف الله – عز وجل – من يقوم بعمارة المسجد بالإيمان فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}17، قال سيد قطب – رحمه الله -: "وهنا ينكر السياق على المشركين أن يكون لهم الحق في أن يعمروا بيوت الله، فهو حق خالص للمؤمنين بالله، القائمين بفرائضه؛ وما كانت عمارة البيت في الجاهلية، وسقاية الحاج؛ لتغير من هذه القاعدة، وهو أمر مستنكر منذ الابتداء، ليس له مبرر لأنه مخالف لطبائع الأشياء.
إن بيوت الله خالصة لله، لا يذكر فيها إلا اسمه، ولا يدعى معه فيها أحد غيره، فكيف يعمرها من لا يعمر التوحيد قلوبهم، ومن يدعون مع الله شركاء، فهي باطلة أصلاً، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله"18.
– ومن تعظيم المساجد: الذهاب إلى المساجد، ولزومها، والمكوث فيها، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ))19، وعَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ((إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ؛ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ))20.
– ومن تعظيم المساجد: أن الداخل إلى المسجد لا يجلس مباشرة بل يركع ركعتين وبهذا أمر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فيما ورد عن أبي قتادة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس))21.
– ومن تعظيم المساجد: عدم إحداث فوضى داخل المسجد فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ))22.
– ومن تعظيم المساجد: الاحتراز عن كل ما يؤذي رواد المساجد من الروائح الكريهة، والصخب، وغيره فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ (وقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ) فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ))23، ونحن نجد أن الشارع الحكيم قد منع من حصول أمور في المسجد تعظيماً لقدرها، ليعلم لدى المسلمين أن المساجد لها قدر عظيم، وشأن كبير، ومن هذه الأمور التي منعها الشرع:
– البيع والشراء ونحوهما من العقود داخل المسجد: فإنها وإنْ كانت مباحة في الأصل، فلأنها تشغل عن الله، وتقلل من تجويد الذكر والعبادة والدعاء، لذلك مُنعت في بيوت الله ليكون العبد فيها عبداً خالصاً لله فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لاَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ))24.
– ومن الأمور التي منعها الشارع داخل المسجد: نشد الضالة: وقد صرح النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنهي عن ذلك، وشدّد فيه كما في حديث أَبي هريرة – رضي الله عنه – السابق.
– ومن الأمور التي منعها الشارع داخل المسجد: إنشاد الشعر في المسجد، وإقامة الحدود والاستيقاد فعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنْ يُسْتَقَادَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ، وَأَنْ تُقَامَ فِيهِ الْحُدُودُ"25.
كل هذه المنهيات وغيرها نهى عنها الشارع الحكيم؛ ليعلم مرتادي المساجد أدبها، وتعظيمها في نفوسهم ومجتمعاتهم، وليكون للمكان الذي يطلق عليه "مسجد" مكانة خاصة في قلوبهم ونفوسهم؛ فهي أماكن عبادة وليست كبقية الأماكن الأخرى، فإذا ما دخلها المسلم انصرف عن كل مشغلات النفس الدنية، ومفتنات الدنيا البهية، فيقدّم ذكر الله على كل ذكر، كل هذا كي يعين المصلين والذاكرين والتالين والمتفكرين في الله على المكث، وإطالة البقاء في العبادة والدعاء فهم بهذا يعمرون بيوت الله.
وهنا مسألة قد تشكل على البعض حاصلها: ما حكم دخول الكافر إلى المسجد؟
وقد ذكر ابن رجب المسألة فقال: "اختلف أهل العلم منهم في دخول الكافر المسجد، فجوزه أبو حنيفة مطلقاً، وأباه مالك مطلقاً، وقال الشافعي – رضي الله عنه -: يمنع من دخول الحرم، والمسجد الحرام، وحكي رواية عن أحمد، وقال أصحاب الشافعي: وليس له أن يدخل المسجد إلا بإذن المسلم، ووافقهم طائفة من أصحابنا على ذلك، وقال بعضهم: لا يجوز للمسلم أن يأذن فيه إلا لمصلحة من سماع قرآن، أو رجاء إسلام، أو إصلاح شيء ونحو ذلك، فأما لمجرد الأكل واللبث والاستراحة فلا.
وهذا كله في مساجد الحل، فأما المسجد الحرام فلا يجوز للمسلمين الإذن في دخوله للكافرين، بل لا يمكن الكافر من دخول الحرم بالكلية عند الشافعي وأحمد وأصحابهما، واستدلوا بقول الله – تعالى -: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر منادياً ينادي: ((لا يحج بعد العام مشرك))26، وأجازه أبو حنيفة وأصحابه.
فأما مسجد المدينة فالمشهور عند الشافعية أن حكمه حكم مساجد الحل؛ لأن الأحاديث الدالة على الجواز إنما وردت في مسجد المدينة بخصوصه، فكيف يمنع منه ويخص الجواز بغيره؟
وقالت طائفة: لا يجوز تمكين الكافر من دخول المساجد بحال، وهذا هو المروي عن الصحابة منهم: عمر، وعلي، وأبو موسى الأشعري، وعن عمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك، والمنصوص عن أحمد، قال: لا يدخلون المسجد ولا ينبغي لهم أن يدخلوهم، واستدلوا بقول الله – تعالى -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ}، وظاهره يدل على أن الكفار لا يمكنون من دخول المساجد، فإن دخلوا أخيفوا وعوقبوا، فيكونون في حال دخولهم خائفين من عقوبة المسلمين لهم، وعلى هذا القول فأحاديث الرخصة قد تحمل على أن ذلك قبل النهي عنه، أو أن ذلك كان جائزاً حيث كان يحتاج إلى تألف قلوبهم، وقد زال ذلك.
وفرقت طائفة بَيْن أهل الذمة وبين أهل الحرب، فقالوا: يجوز إدخال أهل الذمة دون أهل الحرب، وروي عن جابر بن عبد الله وقتادة" 27.
وعلى أي حال فإنا نلحظ هذه الأيام أن المساجد وخاصة الأثرية منها والقديمة البناء أصبحت – ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم – محلاً للسياحة، فيدخلها السواح من الكفار وفيهم نساء عاريات، وكل هذا على مرأى ومسمع من جميع المسلمين، ولا ينكر هذا أحد منهم – إلا من رحم الله -، بل والطامة الكبرى أن هذا بتشجيع من السلطات المسلمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإن مما يدمي الفؤاد ما نراه اليوم من أن الكثير من شباب المسلمين يبتعدون عن بيوت الله فلا يدخلوها حتى وإن أقيمت الصلاة، وكلنا يعلم أنه لن يقوم له مجد، ولا عز، ولن تصبح لنا كرامة وهيبة؛ إلا بعودتنا إلى المساجد فتتعلق بها قلوبنا، وتهوى إليها أفئدتنا، وحينها يصلح حالنا.
هذه بعض الخواطر حول مكانة المسجد في الإسلام، والتي استقيناها من نهج رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه الكرام، وهم القدوة الحسنة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والذي أصلح حال الأوائل من هذه الأمة هو حين كان المسجد له مكانته في نفوسهم، ومن أولويات حياتهم، ولذا نجد إن أول عملٍ قام به النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بعد الهجرة هو بناء المسجد، ولعل في هذا إشارة واضحة لأهمية وجود المسجد في المجتمع الإسلامي، من هنا تأتي مكانة المسجد في الإسلام، وحضارة الإسلام التي أقامها لا تقوم إلا على المسجد، ولا تصلح إلا بالمسجد، ولا يكون لها نور إلا بالمسجد، فمنه انطلقت معالم الإسلام، ومنه انطلق الدعاة إلى الله، والفاتحون المجاهدون في سبيل الله.
هذه بعض الإرشادات للمسجد مما أرشدنا إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلنعمل على تنفيذها فإن العبادة لا تتوقف عند الركوع والسجود، بل إن خدمة المسجد، والتأدب في المسجد عبادة لها أجرها، وهي نور للمؤمن في الدنيا والآخرة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا سواء السبيل، وأن يردنا إلى دينه مرداً جميلاً إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
1 سورة النور (36).
2 سورة التوبة (18).
3 سورة البقرة (114).
4 سورة الجن (18).
5 التوبة (18).
6 سورة النور (36 ).
7 سورة لقمان (13).
8 البخاري (431)، ومسلم (829).
9 مسلم (1076).
10 مسلم (1070).
11 البخاري (622)، ومسلم(1073).
12 تفسير الرازي (2/296-297) بتصرف.
13 البخاري (620)، ومسلم (1712).
14 تاريخ المساجد الشهيرة (1/3).
15 صحيح وضعيف سنن ابن ماجة (2/330) وقال صحيح.
16 سورة الأعراف (31).
17 سورة التوبة (18).
18 في ظلال القرآن (3/490).
19 البخاري (170)، ومسلم (1061).
20 مسلم (369).
21 مسلم (369).
22 مسلم (655).
23 مسلم (876).
24 البخاري (425)، ومسلم (1165).
25 سنن أبي داود (3893)، وصحيح وضعيف سنن أبي داود (9/490).
26 البخاري (356)، ومسلم (2401).
27 فتح الباري لابن رجب (ج3/ص279).