التسليم بالقضاء

التسليم بالقضاء

 

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، الذي أوضح الله تعالى به المحجة، وأقام الحجة، وأبان الدين.. أما بعد:

فإن موضوع القضاء والقدر موضوع عظيم، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، والقضاء والقدر شرعاً: هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها.

وقد بين الله -عز وجل- أن كل شيء يسير بقضاء الله وقدره، فقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(49) سورة القمر، وقال الرسول في حديث جبريل -عليه السلام-: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه)1 فبيّن -صلى الله عليه وسلم- أن من جملة الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)2.

ويقول الشيح السعدي -رحمه الله-: "إن الله كما أنه الذي خلقهم -أي الناس- فإنه خلق ما به يفعلون من قدرتهم وإرادتهم؛ ثم هم فعلوا الأفعال المتنوعة من طاعة ومعصية، بقدرتهم وإرادتهم اللتين خلقهما الله)3 وعن أبي الدرداء، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه)4.

وقد حثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الإمساك عن الخوض في القدر بقوله: (إذا ذكر القدر فأمسكوا)5.

وقال الإمام الطحاوي -رحمه الله-: "وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل".

ويقول الإمام البغوي في شرح السنة: "الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، قال تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(96) سورة الصافات،… فالإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، كلها بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليها الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليها العقاب، والقدر سر من أسرار الله لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلاً، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلاً".

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (…واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يرد الله أن يعطيك لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا أن يصرفوا عنك شيئاً أراد الله أن يصيبك به لم يقدروا على ذلك… واعلم أن القلم قد جرى بما هو كائن)6 ولما توفي عم النبي-صلى الله عليه وسلم- وزوجته خديجة، هذان النصيران له في تبليغ هذه الدعوة، قابل أمر ربه بالرضا والتسليم. وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم: ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك)7. ولقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما أصاب عبداً قط همٌّ ولا غم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك عدلٌ في قضاؤك..)8 قال ابن القيم: "ثم أتبع ذلك باعترافه بأنه في قبضته وملكه وتحت تصرفه، بكون ناصيته في يده يصرفه كيف يشاء، كما يقاد من أمسك بناصيته شديد القوي لا يستطيع إلا الانقياد له. ثم أتبع ذلك بإقراره له بنفاذ حكمه فيه، وجريانه عليه شاء أم أبى…"9

آثار الإيمان بالقضاء والقدر:

وللإيمان بالقضاء والقدر آثار كبيرة على الفرد والمجتمع نجملها فيما يلي: 

1- القدر من أكبر الدواعي التي تدعو إلى العمــل والنشاط والسعي بما يرضي الله في هذه الحياة، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمور بثبات وعزم ويقين. 

2- ومن آثار الإيمان بالقدر أن يعرف الإنسان قدْر نفسه، فلا يتكبر ولا يبطر ولا يتعالى أبداً؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثمّ يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائماً، وهذا من أسرار خفاء المقدور. 

3- ومن آثار الإيمان بالقدر أنه يطرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول مكروه، لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السموات والأرض وهو كائن لا محالة، فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر، وإلى هذا يشير الله تعالى بقوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}(23) سورة الحديد.

4- الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتزرع الأحقـاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لأنه هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، وهو يعلم أنه حين يحسد غيره إنما يعترض 

على المقدور، وهكذا فالمؤمن يسعى لعمل الخير، ويحب للناس ما يحــب لنفسه، فإن وصل إلى ما يصبو إليه حمد الله وشكره على نعمه، وإن لم يصل إلى  شيء من ذلك صبر ولم يجزع، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل ما لم ينله؛ لأن الله هو الذي يقسم الأرزاق. 

5- والإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم فتثبت في ساحات الجهاد، ولا تخاف الموت، لأنها توقن أن الآجال محدودة لا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة. فيصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، يبين للناس حقيقة الإيمان ويوضح لهم مقتضياته، وواجباتهم تجاه ربهم تبارك وتعالى، كما يبين لهم حقائق الكفر والشرك والنفاق ويحذرهم منها، ويكشف الباطل وزيفه. 

6- والإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سبباً في استقامة المسلم، وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصر في حقه أحد أو يسيء إليه، أو يرد إحسانه بالإساءة، أو ينال من عرضه بغير حق، تجده يعفو ويصفح؛ لأنه يعلم أن ذلك مقدر، وهذا إنما يحسن إذا كان في حق نفسه، إما في حق الله فلا يجوز العفو ولا التعلل بالقدر؛ لأن القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعايب. 

7- والإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضاً دائم الافتقار إلى ربه تعالى يستمد منه العون على الثبات، ويطلب منه المزيد، وهو أيضاً كريم يحب الإحسان إلى الآخرين، فتجده يعطف عليهم10

8- والإيمان بالقدر يربط العبد بخالقه سبحانه، ذلك أن الحياة مليئة بالمفاجآت، فلا يدري المرء ما يحصل له من خير، أو ما يدهمه من شر، فيأتي الإيمان بالقدر ليبقي قلب المؤمن معلقاً بخالقه، راجياً أن يدفع عنه كل سوء، وأن يعافيه من كل بلاء، وأن يوفقه لخيري الدنيا والآخرة، فتتعلق نفسه بربه رغبةً ورهبةً. فالتماسك وعدم الانهيار للمصيبة أو الحدث الجلل، ثمرة من ثمار الإيمان بالقضاء والقدر، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(11) سورة التغابن، قال علقمة رحمه الله: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم"11. وقال ابن عباس: "يهدي قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه"12. فلطم الوجوه، وشق الجيوب، وضرب الفخذ، كل هذا منهي عنه، ومناف لعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر. ولله در الشاعر القائل:

إذا ابتليت فثق بالله وارض به            إن الذي يكشف البلوى هو الله

إذا قضى الله فاستسلم لقدرته             ما لامرئ حيلة فيما قضى الله

اليأس يقطع أحيانا بصـاحبه            لا تيأسـن فنعـم القـادر الله

9- الحصول على اليقين بأن العاقبة للمتقين: وهذا ما يجزم به قلب المؤمن بالله وقدره أن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً، وأن دوام الحال من المحال، وأن المصائب لا تعد إلا أن تكون سحابة صيف، لابد أن تنقشع، وأن ليل الظالم لابد أن يولي، وأن الحق لابد أن يظهر، لذا جاء النهي عن اليأس والقنوط: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }(87) سورة يوسف.13

فنسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا اليقين، والتوكل والتسليم، وأن يجعلنا ممن آمن بالقدر. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 – صحيح البخاري – (ج 14 / ص 452 – 4404) وصحيح مسلم – (ج 1 / ص 87 – 9)

2 – المستدرك على الصحيحين للحاكم – (ج 1 / ص 88 – 85) وشعب الإيمان للبيهقي – (ج 1 / ص 209 – 187)  وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج 4 / ص 181 –  1637)

3 – ( الدرة البهية شرح القصيدة التائية ص 18)

4 – شعب الإيمان للبيهقي (ج 1 / ص 236 – 214) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 2150

5 – رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم: 545

6 – المستدرك على الصحيحين للحاكم – (ج 14 / ص 408 – 6365 )

7 – مسند أحمد – (ج 31 / ص 57 – 14945) و صححه الألباني في فقه السيرة – (ج 1 / ص 260)

8 – مسند أحمد – (ج 8 / ص 63) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 2 / ص 171)

9 – شفاء العليل  جزء 1 – صفحة 274  

10 –  المصدر: موقع الشامسي، بتصرف.

11 – تفسير الطبري – (ج 23 / ص 421)

12 – تفسير الطبري – (ج 23 / ص 421)

13 نقلاً عن موقع المنبر بتصرف.