تعدد المساجد في البلد الواحد
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، أما بعد:
تختلف البلدان من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى مكان آخر، فربما كان البلد بالأمس قرية صغيرة، وهو اليوم مدينة كبيرة تحتوي على عدة أحياء، كل حي يعادل القرية أو يزيد.
والكلام في تعدد المساجد من وجهين:-
الوجه الأول: تعدد المساجد التي تقام فيها الصلوات غير الجمعة:
نص العلماء -رحمهم الله تعالى- على تحريم بناء مسجد بجوار مسجد أو بقربه، لقصد الإضرار والمنافسة، وهكذا قسمة المسجد الواحد إلى مسجدين، فأما للضرورة والحاجة فيجوز بناء مسجد قرب مسجد آخر أو جنبه، ولا تحل قسمة المسجد إلى مسجدين؛ لأنه لا ضرورة تدعو لذلك، والأفضل توسعة المسجد، ولا يبنى بجواره مسجد1.
ودليل ما تقدم: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (107-108) سورة التوبة.
الشاهد: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} وقوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}.
وجه الدلالة:
أن الله -سبحانه وتعالى- بين قصد المنافقين من بناء مسجدهم، وأنهم إنما بنوه لقصد الضرر بالمسلمين، فلذلك نهى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي فيه، فهدمه النبي -صلى الله عليه وسلم- عقاباً لهم2.
الوجه الثاني: تعدد المساجد التي تقام فيها الجمعة:
من المعروف أن المساجد الجامعة تتخذ شكلاً خاصاً بها؛ حيث تحتوي على منبر، وتكون كبيرة. وقد اشترط بعض المالكية لصلاة الجمعة المسجد المسقف، مستدلين بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (36) سورة النــور. وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (26) سورة الحـج. وحقيقة البيتية أن يكون ذا حيطان ترفع3.
وغالب البيوت التي يسكنها الناس أو المساجد ذات حيطان وسقف.
لكن هذا الشرط وهذا الاستدلال غير صحيح، فالآية لا تدل على ذلك لا من قريب ولا من بعيد.
وجمهور العلماء: على أنه لا يشترط لصلاة الجمعة المسجد المسقف؛ بل تصح الصلاة في أي مكان لعموم الأدلة: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً»4؛ ولأنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه ما يدل على اشتراط المسجد للجمعة5، ولهذا كله كان من المناسب التعرض لحكم تعدد الجمعة في البلد الواحد؛ لأنه بمعرفة مكان إقامة الجمعة نعرف أنه يجوز بناء المسجد الجامع فيه لأجل صلاة الجمعة.
فنقول: اختلف العلماء في جواز تعدد الجمعة في البلد الواحد على قولين:-
القول الأول: يجوز تعدد الجمعة في البلد الواحد للضرورة والحاجة الداعية إلى ذلك، وهذا الراجح في مذهب أبي حنيفة وأحمد.
القول الثاني: لا يجوز تعدد الجمعة في البلد الواحد، روي هذا عن أبي حنيفة وبه قال مالك والشافعي ورواية عن الإمام أحمد.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:–
1- ثبت أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- استخلف ابن مسعود يصلي بالضعفة صلاة العيد، والجمعة مثلها.
2- ولأن في تحديد إقامة الجمعة بموطن واحد حرجاً عظيماً، ومشقة كبيرة، والإسلام دين يسر، فتعددها -إذا كان لحاجة وبإذن ولي الأمر الشرعي- فيه رفع للحرج عن المسلمين، فهو جائز شرعاً.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:–
1- ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم الجمعة وهو في المدينة إلا في مسجد واحد بالبلد، وهو مسجده -صلى الله عليه وسلم- وكذلك فعل خلفاؤه الأربعة من بعده، ولم يظهر لهم مخالف.
2- قال ابن عمر –رضي الله عنهما-: "لا تقام الجمعة إلا في المسجد الذي يصلي فيه الإمام". ومراده -رضي الله عنه- بقوله "الإمام": أي الإمام الأعظم، ومفاد كلامه هذا: أنه لا يجوز تعدد إقامة الجمعة في البلد الواحد.
المناقشة:
اتفق العلماء -رحمهم الله تعالى- على أن تعدد الجمعة بلا حاجة لا يجوز.
قال في المغني: "لا نعلم في هذا مخالفاً"6 أهـ.
وأما للضرورة والحاجة: فإن الإسلام دين يسر، ولا مشقة فيه، وجمع الخلائق بمكان واحد -مع كثرتهم الشديدة وضيق الأمكنة- فيه مشقة شديدة عليهم، وعلى هذا سار المسلمون اليوم، إذ لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- المنع من إقامتها، وقول ابن عمر مختلف فيه؛ لأن الصحابة كانوا يصلون في المساجد الجامعة في القرى وليس فيها الإمام الأعظم، فلا حجة فيه7.
تبين مما سبق من الأقوال والأدلة أن تعدد المساجد في البلد الواحد كالمدينة أو القرية الكبيرة لا مانع منه إذا لم يقصد من ذلك الإضرار بالمسجد الأول أو زرع فتنة وخلاف، وهذا في المساجد التي لا تقام فيها صلاة الجمعة،، وأما صلاة الجمعة فتعددها في مساجد كثيرة في الأمصار والبلدان أمر مشروع وهو الصحيح الراجح الذي لا زال عمل المسلمين به منذ أزمنة مديدة وهو الذي تدل عليه أدلة الشرع ولا يوجد لذلك معارض، ويشترط في ذلك ألا يكون سبب تعدد المساجد الخلاف والنزاع بين المسلمين، وإنما لتباعد المسافات بين المساجد، والازدحام إذا لم يمكن توسعة المسجد..
فهذا ما يتعلق بقضية تعدد المساجد في البلد الواحد.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
والحمد لله رب العالمين.
1 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية-(1/ 14) .
2 المرجع السابق نقلاً عن: أحكام القرآن لابن العربي (3/1012)، وتفسير ابن كثير (4/148-150)، وفتح القدير للشوكاني (2/403).
3 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/113).
4 رواه البخاري -419- (ج 2 / ص 218)
5 انظر: الجمعة ومكانتها في الدين لابن حجر آل بن علي آل بوطامي (ص56).
6 المغني(4/176). – (ج 1 / ص 13).
7 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية.