التثبت عند الشائعات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وأصحابه أجمعين، أما بعد:
عباد الله: فإن الشائعات تعتبر من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص؛ فكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وكم حطمت الإشاعة من عظماء، وكم هدمت الإشاعة من وشائج، وكم تسببت الشائعات في جرائم، وكم فككت الإشاعة من علاقات وصداقات، وكم هزمت الإشاعة من جيوش، وكم أخرت الإشاعة في سير أقوام(1)، ولهذا أكد الله – سبحانه – على التبين والتثبت في القول فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات:6).
تعريف الإشاعة:
الإشاعة في اللغة: هي الانتشار والتكاثر.
وفي “الاصطلاح”: “النبأ الهادف الذي يكون مصدره مجهولاً، وهي سريعة الانتشار، ذات طابع استفزازي أو هادئ حسب طبيعة ذلك النبأ”.
أيها الإخوة في الله: إن رسول الله ﷺ قد حذر أيما تحذير من الإشاعة، وسد على من أراد أن ينشرها كل باب بقوله: كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع(2) قال الإمام مالك – رحمة الله تعالى -: “اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما سمع”، وقال المناوي – رحمه الله تعالى -: “أي إذا لم يتثبت؛ لأنه يسمع عادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع لا محالة يكذب، والكذب الإخبار عن الشيء على غير ما هو عليه وإن لم يتعمد؛ لكن التعمد شرط الإثم …”، ومن ذلك أيضاً قوله ﷺ: بئس مطية الرجل زعموا(3).
قال الخطابي – رحمه الله -: “… وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له، ولا ثبت فيه، وإنما هو شيء حكي عن الألسن على سبيل البلاغ، فذم النبي ﷺ من الحديث ما كان هذا سبيله، وأمر بالتثبت فيه، والتوثق لما يحكيه من ذلك، فلا يردونه حتى يكون معزياً إذا ثبت، ومروياً عن ثقة”(4).
وجاء في “عون المعبود”: “… والمقصود أن الإخبار بخبر مبناه على الشك، والتخمين؛ دون الجزم واليقين قبيح، بل ينبغي أن يكون لخبره سند وثبوت، ويكون على ثقة من ذلك لا مجرد حكاية على ظن وحسبان، وفي المثل: “زعموا مطية الكذب …”(5).
الصحابة والتثبت في الأخبار:
أخي الكريم: إن صحابة رسول الله ﷺ قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في التثبت والتأكد من صحة الأخبار، ومن عدم قبول أي شائعة حتى يثبت خبرها، ومن هذه الأمثلة ما ثبت عن أبي بكر عندما سُئل عن ميراث الجدة فلم يعرف في ذلك علماً، فسأل الصحابة فأخبره المغيرة أن النبي ﷺ أعطاه السدس، فطلب الصديق شاهداً لقول المغيرة؛ فشهد على ذلك محمد بن مسلمة .
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى عندما استأذن ثلاثاً للدخول على عمر فلم يؤذن له، فرجع، فرده عمر بعدما ذهب، وقال له: ما منعك؟ فذكر أبو موسى الحديث، فقال له عمر: والله لتقيمن عليه بينة (يعني شاهداً على ما سمعت) …”.
ومن ذلك قول أبي شريح عن ذكر حديث لعمر بن سعيد فقال: “ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به النبي ﷺ الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به …”.
أما كلام العلماء في التثبت في الرواية فأشهر من أن يحصر، بل عقدوا له أبواباً في كثير من كتبهم، وخاصة فيما يتعلق بكتب مصطلح الحديث، فمن ذلك قول مالك لابن وهب: “اعلم أنه ليس يسلم رجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً وهو يحدث بكل ما سمع”، وقال عبد الرحمن بن مهدي – رحمه الله -: “لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع”، وقال إياس بن معاوية يوصي سفيان بن حسين: “احفظ عليَّ ما أقول لك: إيَّاك والشناعة في الحديث؛ فإنه قلّما حملها أحد إلا ذلَّ في نفسه، وكذب في حديثه” إلى غير ذلك من الآثار.
من أمثلة الشائعات:
أحبتي في الله: احذروا من يقول كل خبر، وتصديق كل ما يقال، فإن هناك فئات وأصناف من الناس في كل مجتمع قلوبها مريضة، وأرواحها ميتة، وذممها مهدرة، لا تخاف من الله، ولا تستحي من عباد الله، مهنتهم ووظيفتهم وهوايتهم نشر الشائعات في أوساط الناس، تتغذى على لحوم البشر، وترتقي على أكتاف وحساب غيرها، وإليكم بعض الأمثلة على هذه الشائعات:
1- الشائعة التي انتشرت أن كفار قريش قد أسلموا وذلك بعد الهجرة الأولى للحبشة، كانت نتيجتها أن رجع عدد من المسلمين إلى مكة، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل، وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فارٌّ منه، فلله الأمر من قبل، ومن بعد.
2- في معركة أحد، عندما أشاع الكفار أن الرسول ﷺ قتل فتّ ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى أن بعضهم ألقى السلاح، وترك القتال، فتأملوا – رحمكم الله – تأثير الإشاعة.
3- الشائعات الكاذبة التي صنعت ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان ، ماذا كانت آثارها السيئة لا على المجتمع في ذلك الوقت؛ بل على الأمة حتى وقتنا هذا، تجمع أخلاط من المنافقين، ودهماء الناس، وجهلتهم، وأصبحت لهم شوكة، وقتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته، وقطع الماء عنه، بل كانت آثار هذه الفتنة أن قامت حروب بين الصحابة الكرام كمعركة الجمل، وصفين، من كان يتصور أن الإشاعة تفعل كل هذا، بل خرجت على إثرها الخوارج، وتزندقت الشيعة، وترتب عليها ظهور المرجئة، والقدرية الأولى، ثم انتشرت البدع بكثرة، وظهرت فتن وبدع، وقلاقل كثيرة، ما تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم.
4- حادثة الإفك: تلك الشائعة التي طعنت في عرض رسول الله ﷺ، الشائعة التي هزت بيت النبوة شهراً كاملاً، بل هزت المدينة كلها، بل هزت المسلمين كلهم، هذا الحادث الذي كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها أن تمر به من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلق قلب رسول الله ﷺ وقلب زوجه عائشة – رضي الله عنها – التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق ، وزوجه – رضي الله عنها -، وقلب صفوان بن المعطل شهراً كاملاً، علقها بحبال الشك، والقلق، والألم الذي لا يطاق.
لسنا مبالغين أيها الأخوة إذا قلنا أن ما واجهه النبي ﷺ في حديث الإفك هو حدث الأحداث في تاريخه – عليه الصلاة والسلام -، فلم يُمكر بالمسلمين مكر أشد من تلك الإشاعة، وهي مجرد إشاعة مختلقة بيَّن الله – تعالى – كذبها، ولولا عناية الله لكانت قادرة على أن تعصف بالأخضر واليابس، ولا تُبقي على نفس مستقرة مطمئنة، ولقد مكث مجتمع المدينة بأكمله شهراً كاملاً وهو يصطلي نار تلك الإشاعة، ويتعذب ضميره، وتعصره الإشاعة الهوجاء حتى نزل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، ويكون درساً تربوياً رائعاً لذلك المجتمع، ولكل مجتمع مسلم إلى قيام الساعة(6).
ما الذي ينبغي على المسلم عند سماع الشائعات:
1- أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم وهو طلب الدليل الباطني الوجداني، وأن ينزل أخيه المسلم بمنزلته، وهذه هي وحدة الصف الداخلي : لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً. 2- أن يطلب الدليل الخارجي البرهاني: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ.
3- ألا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بمثل هذه الشائعات لماتت في مهدها، ولم تجد من يحيها إلا من المنافقين : ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا ...
4- أن يرد الأمر إلى أولي الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي كما قال – تعالى -: وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً (النساء:83).
والشائعات إذا حوصرت بهذه الأمور الأربعة؛ فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها، ولكن ليس الإشكال في هذا، بل الإشكال أن هناك فريق من المؤمنين يرضون أن يستمعوا لمثل هذه الإشاعات، هذا فضلاً عن فريق من أصحاب القلوب المريضة التي تحب البحث، ونشر مثل هذه الأمور، وقد بيَّن الله ذلك بقوله – تعالى -: وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (التوبة:47) أي للمنافقين المغرضين، وهذا هو الداء الكبير، وهو أن يرضى فريق من الناس الاستماع إلى مثل هذه الشائعات، وإلى كلام المنافقين والمغرضين.
يقول “شيخ الإسلام ابن تيمية” – رحمه الله تعالى -: “فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين، يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم، ويستجيب لهم: إما لظن مخطئ، أو لنوع من الهوى، أو لمجموعهما…)(7) 5- عدم سماع ما يقوله الكذابون، والمنافقون، والمغتابون، وأصحاب القلوب المريضة، وعدم الرضى بذلك كما هو منهج السلف – رضوان الله عليهم -، والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر عاجزين عن إطفاء الفتنة، وكف أهلها، وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله(8).
والله الهادي إلى سواء السبيل.