هاجر الصبر والتسليم

الأشهر الحرم

 

هاجر الصبر والتسليم

 

المقدمة:

الحمد لله ولي الصابرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، ومالك يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، وخاتم النبيين والمرسلين، وحجته على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه وقفة قصيرة مع قصة امرأة كريمة صابرة راضية لما قضاه الله وقده، وهي زوجة نبي كريم بل هو أبو الأنبياء، وهي كذلك أم نبيٍ كريم، فزوجها إبراهيم وهي أم إسماعيل – عليهما السلام-.

ولقد كانت سبباً لكثير من الأحكام الشرعية التي منها: السعي بين الصفا والمروة، وغيرها من الأحكام.

هذه القصة رواه الإمام البخاري- رحمه الله – في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، بطولها ولنذكر هنا ما يهمنا من قصة هاجر أم  إسماعيل، فعن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: " أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل– وهي ترضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس آنس ولا شيء، فقالت له لك ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت…".

قوله: " أول من اتخذ النساء المنطق" المنطق: جمع منطق، وكان سبب ذلك؛ كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أن سارة كانت هاجر لإبراهيم فحملت منه بإسماعيل، فلما ولدته غارت منها فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء؛ فاتخذت هاجر منطقاً فشدت به وسطها،وهربت وجرت ذيلها لتخفي أثرها على سارة.

وهذه من غيرة النساء الطبيعية على بعضهن، فقد جاء في رواية: " لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل" فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمه، وهذه من حكمته وفطنته أن قطع الخلاف بين نسائه، وذلك بإبعاد كل واحدة عن الأخرى.

وكان إسماعيل حينها رضيعاً:" فوضعهما عند دوحة" وهي الشجرة الكبيرة فوق زمزم في  أعلى المسجد، أي مكان المسجد؛ لأنه لم يكن حينئذ نبي، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء.

لتتخيل- أخي- حال امرأة ضعيفة معها صبيها الرضيع، وفي مكان قفرٍ، ليس فيه ماء ولا… فماذا يكون محالها؟ ما هو رد فعلها؟

"فوضعهما هنالك.. ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء. فقالت له ذلك مراراً" حقاً لمن كان مثلها أن يقول ذلك عشرات المرات. كيف وهي في قفر، وليس هناك إنس ولا شيء، ومع ذلك كله معها رضيعها التي كانت تخاف عليه ؛كما جاء في القصة: " وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى– أو قال: يتلبط– وفي رواية:" يتملظ".

فانطلقت كراهية أن تنظر إليهن فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليلها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفاء؛ حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف ذراعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم ترى أحداً. ففعلت ذلك سبع مرات" ومع هذه الدواعي لخوفها إلا أن إبراهيم: " جعل لا يلتفت إليها" فقالت له حينئذ: "آلله أمرك بهذا ؟" تعني أنه إذا فعل ذلك بأمر من الله فلا ضير: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}سورة الأحزاب(36). فرد عليها إبراهيم قائلاً: "نعم. فقالت: إذن لا يضيعنا". وفي رواية أنها قالت: " يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله. قالت: رضيت بالله" فصبرت على ما أصابها من الضر والشدة، بل رضيت بما قدره الله لها، وقالت: بلسان المؤمنة المحتسبة المتوكلة على خالقها، ومالك أمرها:" رضيت بالله" وفي رواية أنها قالت: "حسبي" وفي رواية  أنها قالت:" لن يضيعنا" إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

 فلما رضيت بقضاء الله وقدره، وتوكلت عليه، وفوضت أمرها إليه، حفظها الله وحفظ ابنها، بل وجعله نبياً، وجعل لها كرامات عديدة منها: أنها لما صعدت الصفا والمروة أكرمها الله بأن جعل السعي بينهما ركناً من أركان العمرة والحج؛ كما جاء في الحديث: " فلذلك سعى الناس بينهما" و غيرها من الكرامات.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظنا من كل سوء، وأن يتولى أمرنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.