الاحتفال بالمولد النبوي بين السنة والبدعة

الاحتفال بالمولد النبوي بين السنة والبدعة

الحمد لله الذي أكمل الدين لعباده، وأتمَّ بذلك النعمة على خلقه، وختم الرسالات برسالة نبيه محمد ، والصلاة والسلام على من بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلون الأعزاء: والله إن القلب ليحزن ويتألم؛ عندما يرى بعض معالم هذا الدين تنمحي، ولا منكِر لذلك ولا مُواجه إلا من رحم الله، وقليل ما هم، وفي المقابل نرى أشياء جديدة ظهرت لتضاف إلى دين الإسلام بحسن نية أو سوء نية، في الوقت الذي نعاني فيه جميعاً من التقصير الكبير في أداء بعض السنن اليسيرة كالسواك، وأداء السنن الرواتب، وكثرة الصلاة والسلام على رسول الله ليلة الجمعة ويوم الجمعة … إلى آخر تلك السنن التي قد ضاعت عند بعضنا، فما هذا الفصام النكد، وما هذه الموازين المختلة!!

عن عمر بن يحيى بن عمرو بن سلمة الهمداني قال: حدثني أبي قال: حدثني أبي قال: “كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود  قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري  فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشتَ فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدّوا سيئاتهم، وضمنتَ لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير، والتهليل، والتسبيح! قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم  متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة؟ قالوا والله: يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله  حدثنا: إن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج”1.

وهذا نداء من إخوة مشفقين إلى كل من يقيمون الموالد النبوية، أو يدعون إليها، أو يرضون بها: والذي نفوسنا بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد ، أو مفتتحوا باب ضلالة؟ هذا كتاب الله بين أيدينا، وسنة رسول الله  مدونة – ولله الحمد – في كتبنا، وآثار الصحابة والتابعين مسندة يرويها عالم عن عالم، فأين يوجد تشريع هذا المولد من هذه المصادر التي ذكرناها؟ ألا تعترفون أن المولد إنما أحدثه السلطان أبو سعيد كوكبوري في القرن السادس الهجري اقتداءً بالشيخ عمر بن محمد المل2؟

وإذا علمتم هذا فنقول: إذاً اجلسوا مع أنفسكم، وفكروا وتأملوا: هل أنتم خير أم رسول الله ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؟ هم خير – والله – وأعلى، وأرفع وأورع، فهل فعلوا ذلك المولد أو حتى فكروا فيه؟ أو قال الرسول : لولا أن الناس حديثو عهد بإسلام لاتخذت مولداً؟ أم أنهم نسوا أن ينبهوا على ذلك؟ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا3؟ إذاً فكيف تجعلون هذا ديناً أو تشريعاً للأمة، أو تقرباً وإعلان حب؟ ولو كان ديناً فإن الله قد قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ4، ولو كان حباً وتقديراً فإن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والصحابة، والتابعون أعظم منا حباً له وتقديراً، وهم مع ذلك لم يعملوا من ذلك شيئاً.

وانظر إلى حبهم له فيما روي عنهم، فقد جاء أنه لما بويع أبو بكر الصديق  على الخلافة، “وجاءه والي مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، فسلموا عليه بالخلافة: سلام عليك يا خليفة رسول الله، وصافحوه جميعاً، فجعل أبو بكر  يبكي إذا ذكر رسول الله 5، “وقال الإمام مالك – رحمه الله تعالى -: كان أيوب السختياني إذا ذكر النبي  بكى حتى أرحمه، وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر رسول الله  يتغير لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر – وكان سيد القراء – لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد – وكان كثير الدعابة والتبسم – فإذا ذكر عنده النبي  اصفر، ما رأيته يحدث عن رسول الله  إلا على طهارة، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر رسول الله  فننظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله ، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده رسول الله  بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد كنت آتي الزهري – وكان من أهنأ الناس، وأقربهم – فإذا ذكر عنده رسول الله  فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتى صفوان بن سليم – وكان من المتعبدين المتهجدين – فإذا ذكر رسول الله  بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركونه”6.

فأين نحن من هؤلاء المحبين الصادقين، نحن الذين قد تركنا عشرات السنن من سننه ، ثم نزعم أننا باحتفال مبتدَع قد أدينا حقه ، وعبرنا عن حبه!!

فلنراجع – أيها الأخوة – محبتنا له ، ولنجعلها محبة تابعة موافقة لما يحبه الله ورسوله، محبة يعبر عنها الحرص الشديد على تطبيق سنته، ونشر دعوته، والتخلق بآدابه وأخلاقه

لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطْوِ المراحلَا
 وقل لمنادي حبـهم ورضاهم إذا مـــا دعا: لبيك ألفاً كواملَا

والحمد لله رب العالمين.


1 الدارمي في سننه برقم (204)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (2005).

2 البدع الحولية رسالة ماجستير لعبد الله التويجري (1 /141).

3 سورة الأنعام (148).

4 سورة المائدة (3).

5 أنساب الأشراف (3 /314).

6 سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي (12 /395-396).