وقفات مع ما يقال بعد الأذان

وقفات مع ما يقال بعد الأذان

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.. أما بعد:

تمر على القلب في هذه الحياة آلام وأحزان، ويشعر بالضيق أحياناً، وبالقلق أحياناً أخرى، فإذا به وهو سائر على هذه الحال قد بلغ به النصب مبلغه؛ يشرف على منهلٍ عذبٍ زلالٍ تطير لرؤيته الروح فرحاً، وتنتعش به القلوب اطمئناناً، تهدأ إليه النفوس، وتسترشد به العقول، وتشفى به الأجساد؛ إنه ذكر الله – تعالى -، وفي هذا المقال سنعيش مع دوحة من الذكر، نفتش أزهارها، ونستنشق عبيرها، مع ما يقال بعد الأذان في وقفات قصيرات، متأملين متفكرين، عل الله – تعالى – أن يكتبنا مع الذاكرين الذين يذكرون الله على كل حال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}1، وما أجمل أن تعلم ما تقول، وتتدبر ما تترنم به.

إن للأذكار معانٍ تتجلى لمن تأمل فيها، من تعلم معانيها ازداد عليها حرصاً، وانتفع بها ظاهراً وباطناً، فخالطت شغاف قلبه، وطابت بها أريج نفسه، فماذا يقول المسلم بعد الأذان؟

عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة))2.

عندما نردد مع المؤذن كلمات الأذان بخشوع وروِّية فإننا نجدد معاني التوحيد في نفوسنا، ونرسخ عقيدة الإيمان في قلوبنا كل يوم خمس مرات "قال القاضي عياض – رحمه الله تعالى -: "واعلم أن الأذان كلمةٌ جامعةٌ لعقيدة الإيمان، مشتملةٌ على نوعية من العقليات والسمعيات، فأوله إثبات الذات، وما يستحقه من الكمال، والتنزيه عن أضدادها، وذلك بقوله: الله أكبر، وهذه اللفظة – مع اختصار لفظها – دالةٌ على ما ذكرناه، ثم صرح بإثبات الوحدانية، ونفى ضدها من الشركة المستحيلة في حقه – سبحانه وتعالى -، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين، ثم صرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبينا – صلى الله عليه وسلم -، وهي قاعدةٌ عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعها بعد التوحيد، لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد كملت العقائد العقليات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه – سبحانه وتعالى -، ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعاهم إلى الصلاة، وعقبها بعد إثبات النبوة؛ لأن معرفة وجوبها من جهة النبي – صلى الله عليه وسلم – لا من جهة العقل، ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام، ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإيمان، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، وليدخل المصلى فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه،  وعظمة حق من يعبده، وجزيل ثوابه"3، ثم يُصلَّى على الذي دلنا على هذا الخير العظيم، على الذي تحمل ما تحمل لكي يوصل لنا هذا الدين، وكيف لا نفعل ذلك وقد صلى عليه الله من فوق سبع سماوات، وصلت عليه الملائكة الأخيار {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}4، إن هذه الدعوة التي جاء بها هذا النبي الكريم لهي دعوة تامة خلص فيها التوحيد، وهي تامة كاملةٌ باقيةٌ إلى قيام الساعة، قال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "والمراد بها دعوة التوحيد كقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}5، وقيل لدعوة التوحيد "تامة" لأن الشركة نقص، أو التامة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقيةٌ إلى يوم النشور، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام وما سواها فمعرض للفساد، وقال ابن التين: وصـفت بالتامة لأن فيـها أتم القـول وهـو لا إله إلا الله، وقال الطيبي: من أوله إلى قوله محمد رسول الله هي الدعوة التامة"6، فدعوة تامة قد كملت وجملت لفظاً ومعنى، وصلاةُ قائمةٌ دائمةٌ يداوم عليها أهل الإيمان، يقيمونها بين يديك وهي قائمةٌ يدعى لها في هذه الساعة، قال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "وبالقائمة الدائمة من قام على الشيء إذا داوم عليه، وعلى هذا فقوله: (والصلاة القائمة) بيان للدعوة التامة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ"7، يُسأل الله – تعالى – بأنه رب الدعوة التامة، والصلاة القائمة، يسأل بكل هذا أن يعطي صاحب البلاغ المبين، والسراج المنير؛ الوسيلة التي هي لرجل واحد، لا تصلح إلا لفرد، ولا بد أن يكون هذا الفرد خير الأولين والآخرين، وسيد الناس أجمعين، وقائد الغر المحجلين، لا بد أن يكون أرحم الخلق بالخلق، وأكرمهم نفساً، وأجودهم يداً، وأربطهم جأشاً، أعلمهم بالله، عنده أفضل الكتب، وشريعته أحسن شريعة، وأمته خير الأمم إنه محمد – صلى الله عليه وسلم -، فما أشد رجائه أن يكون هو ذلك، وشوقه إلى تلك المسالك، حتى أنه أوصى أمته أن يدعوا له بذلك فقال – عليه الصلاة و السلام -: ((سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة))8، ويسأل المسلمون ربهم أن يُأتي نبيهم مرتبةً تفوق مراتب الخلائق كلها، قال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "قوله والفضيلة أي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو تفسيراً للوسيلة"9، ويسألونه مقاماً يُحمد صاحبه وذلك يوم القيامة كما قال الله – عز وجل – في كتابه إذ يقول:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}10، قال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "وقوله: مقاماً محموداً: أي يحمد القائم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ونصب على الظرفية: أي أبعثه يوم القيامة فأقمه مقاماً محموداً، أو ضمن أبعثه معنى أقمه، أو على أنه مفعول به، ومعنى أبعثه أعطه، ويجوز أن يكون حالاً: أي أبعثه ذا مقام محمودٍ، قال النووي: ثبتت الرواية بالتنكير وكأنه حكاية للفظ القرآن، وقال الطيبي: إنما نكره لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل: مقاماً: أي مقاماً محموداً بكل لسان"11، وكثير من أهل العلم على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة الذي ينتظره الناس بعد ضيق شديد، وعناء متزايد، "قال ابن الجوزي – رحمه الله تعالى -: "والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور"12.

ومما يقال بعد الأذان: ((رضيت بالله رباً، وبمحمدٍ رسولاً، وبالإسلام ديناً، غفر له ذنبه))13، يقول صاحب عون المعبود: "(رضيت بالله ربا) تميز أي: بربوبيته وبجميع قضائه وقدره، وقيل: حال أي: مربياً ومالكاً، وسيداً ومصلحاً، (وبمحمد رسولاً) أي: بجميع ما أرسل به، وبلغه إلينا من الأمور الاعتقادية وغيرها، (وبالإسلام) أي: بجميع أحكام الإسلام من الأوامر والنواهي، (ديناً) أي: اعتقاداً أو انقياداً، وقال ابن الملك: الجملة استئناف، كأنه قيل: ما سبب شهادتك؟ فقال: رضيت بالله، (غفر له) أي من الصغائر"14.

فمن المهم أن يعلم الإنسان ما يقوله وتفكر فيه حتى ينتفع به الانتفاع المطلوب، نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يفقهنا في الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1  سورة آل عمران (191).

2 مسلم (384).

3 شرح مسلم للنووي (4/89).

4 سورة الأحزاب (56).

5 سورة الرعد (14).

6 فتح الباري (2/95).

7 المصدر السابق.

8 مسلم (384).

9 فتح الباري (2/95).

10 سورة الإسراء (79).

11 فتح الباري (2/95).

12 المصدر السابق.

13  مسلم (386).

14 عون المعبود (2/160).