أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً
بعث الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وجعله رحيماً بأمته، حريصاً على هدايتهم، محباً لهم، يقول جل في علاه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة:128).
بعثه الله مبشراً ونذيراً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}(الأحزاب:45)، فبشر أمته بكل خير جعله الله لأهل الإيمان، وبشرهم بما أعدَّه الله لأهل البر والطاعات، وأنذرهم وحذرهم من عاقبة أهل السوء، وصفات أهل السوء، وطريق أهل السوء.
وكان مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته ذلك الداء العضال الذي استشرى في زماننا، وانتشر بين أبناء أمتنا، وتوسعت دائرته، وكثر منتسبوه، وتعددت طرقه، وتنوعت سبله، وتشكلت مظاهره، واختلفت أساليبه، وتفاقمت آثاره…إنه مرض النفاق الخطير الذي طالما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وأنذرها، وذكر لهم بعض ما يُعرف به، ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خُلَّة منهن كانت فيه خُلَّة من نفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا خاصم فَجَر)) رواه البخاري برقم (3007)، ومسلم برقم (58) واللفظ له.
وفي لفظ البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) رواه البخاري برقم (33).
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من علامات المنافق ثلاثة: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) رواه مسلم برقم (90).
ولأجل ذلك فقد كان صحابة رسول الله رضوان الله عليهم من أشد الناس خوفاً من هذا المرض يقول ابن رجب رحمه الله: "كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم، وكان عمر يسأل حذيفة عن نفسه، وسئل أبو رجاء العطاردي: هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق؟ فقال: نعم، إني أدركت منهم بحمد الله صدراً حسناً، نعم شديداً، نعم شديداً، وقال البخاري في صحيحه: وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه" 1 .
وقد ظهر اسم نفاق ومنافق بعد ظهور الإسلام، وله أصل في اللغة يقول ابن الأثير: "وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره، ويظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً يقال: نافق ينافق منافقة ونفاقاً، وهو مأخوذ من النافقاء أحد حجرة اليربوع إذا طُلب من واحد هرب إلى الآخر، وخرج منه، وقيل: هو من النفق وهو السرب الذي يستتر فيه لستره كفره" 2 .
وأما المعنى الشرعي فيقول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: "أما النفاق في الشرع فمعناه إظهار الإسلام، وإبطان الكفر والشر، سمي بذلك لأنه يدخل في الشرع من باب، ويخرج منه من باب آخر، وعلى ذلك نبه اللّه تعالى بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(التوبة:67)، أي الخارجون من الشرع، وجعل اللّه المنافقين شراً من الكافرين فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}(النساء: 145)، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}(النساء:142)، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(البقرة:9-10)" 3 .
وللنفاق قسمان ذكرهما أهل العلم يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى عند ذكر هذا الحديث: "والذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في اللغة: هو من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير، وإبطان خلافه، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: النفاق الأكبر وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.
والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك، وأصول هذا النفاق يرجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث" 4 .
ويقول ابن القيم رحمه الله وهو يبين أنه من الممكن أن يجتمع النفاق العملي مع أصل الإيمان: "فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً" 5 .
ويقول الشيخ صالح الفوزان حفظه تعالى: "…فإنه قد يجتمع في العبد خصال خير وخصال شر، وخصال إيمان وخصال كفر ونفاق، ويستحق من الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك، ومنه التكاسل عن الصلاة مع الجماعة في المسجد فإنه من صفات المنافقين" 6 .
وجاء في "الديباج على مسلم": "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، استشكل بوجودها في كثير من المؤمنين، وأجيب بأن معنى الحديث أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود فيه، ونفاقه في حق من حدثه ووعده، وائتمنه وخاصمه، وعاهده من الناس؛ لا أنه منافق في الإسلام، فيظهره وهو مبطن الكفر، ولم يرد أنه منافق نفاق الكفر المخلد في الدرك الأسفل من النار، وقوله (خالصاً) أي شديداً يشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، قال بعضهم: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من ندر ذلك منه فليس داخلاً" 7 .
ويذكر الشيخ صالح الفوزان الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر فيقول:
"1- أن النفاق الأكبر يُخرج من الملة، والنفاق الأصغر لا يُخرج من الملة.
2- أن النفاق الأكبر اختلاف السر والعلانية في الاعتقاد، والنفاق الأصغر اختلاف السر والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد.
3- أن النفاق الأكبر لا يَصدر من مؤمن، وأما النفاق الأصغر فقد يَصدر من المؤمن.
4- أن النفاق الأكبر في الغالب لا يتوب صاحبه، ولو تاب فقد اختُلِفَ في قبول توبته عند الحاكم، بخلاف النفاق الأصغر فإن صاحبه قد يتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثيراً ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق ثم يتوب اللّه عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه اللّه عنه، والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره كما قالت الصحابة: "يا رسول اللّه إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يَخرَّ من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: ((ذاك صريح الإيمان))" 8 ، وفي رواية: "ما يتعاظم أن يتكلم به! قال : ((الحمد للّه الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة)) 9 أي: حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب؛ هو من صريح الإيمان" 10 انتهى.
وأما أهل النفاق الأكبر فقد قال اللّه فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}(البقرة:18) أي في الإسلام في الباطن، وقال تعالى فيهم: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}(التوبة:126).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اختلف العلماء في قبول توبتهم في الظاهر لكون ذلك لا يُعْلم، إذ هم دائماً يظهرون الإسلام 11 " 12 .
وقد يفهم البعض أن هناك تعارضاً بين الأحاديث إذ أن أحاديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما تذكر أربع علامات، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه يذكر ثلاث علامات، على أن ذكر الثلاث للحصر، فكيف بها أربع في موضع آخر؟
ويبين الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حل هذا الإشكال فيقول: "فإن قيل ظاهره – حديث: (آية المنافق..) – الحصر في الثلاث؛ فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ أربع من كن فيه.. الحديث؟
أجاب القرطبي باحتمال أنه استجد له صلى الله عليه وسلم من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده، وأقول ليس بين الحديثين تعارض؛ لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق، على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه من علامة المنافق ثلاث، وكذا أخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري، وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وببعضها في وقت آخر، وقال القرطبي أيضاً والنووي حصل من مجموع الروايتين خمس خصال لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، وزاد الأول الخلف في الوعد، والثاني الغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة، قلت: وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول، فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه؛ لأن معناهما قد يتحد وعلى هذا فالمزيد خصلة واحدة وهي الفجور في الخصومة، والفجور الميل عن الحق، والاحتيال في رده، وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى وهي الكذب في الحديث" 13 .
فهنا خمس خصال للنفاق العملي وهي:
1- الكذب.
2- الغدر.
3- الخيانة.
4- الفجور في الخصومة.
5- إخلاف الوعد.
وقبل ذكر هذه الصفات دعونا نتعرف على معاني كلمات الحديث، يقول العيني رحمه الله تعالى: "قوله خالصاً من خلص الشيء يخلص من باب نصر ينصر، ومصدره خلوصاً وخالصة.
والخالص أيضاً الأبيض من الألوان، وخلص الشيء إليه خلوصاً وصل، وخلص العظم بالكسر يخلص بالفتح خلصاً بالتحريك إذا تشظى في اللحم، قوله: خصلة أي خلة بفتح الخاء فيهما، وكذا وقع في رواية مسلم قوله: حتى يدعها: أي يتركها…، عاهد من المعاهدة وهي المحالفة والمواثقة، قوله: غدر من الغدر وهو ترك الوفاء، قال الجوهري: غدر به فهو غادر، وغدر أيضاً، وأكثر ما يستعمل هذا في النداء بالشتم وفي (المحكم) غدره وغدر به يغدر غدراً، ورجل غادر وغدار وغدور، وكذلك الأنثى بغير هاء، وغدرة…، وفي (المجمل) الغدر نقض العهد وتركه، ويقال: أصله من الغدير وهو الماء الذي يغادره السيل أي يتركه، يقال: غادرت الشيء إذا تركته، فكأنك تركت ما بينك وبينه من العهد…، قوله: خاصم من المخاصمة وهي المجادلة، قوله: فجر من الفجور وهو الميل عن القصد، والشق بمعنى فجر مال عن الحق، وقال الباطل أو شق ستر الديانة" 14 .
والكذب في الأحاديث مذكور على ثلاثة أنواع وهي: كذب الأقوال (إذا حدث كذب)، (وإذا خاصم فجر)، وكذب الأحوال (وإذا وعد أخلف)، وكذب الأفعال (إذا ائتمن خان)، (وإذا عاهد غدر).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدَّث كذب)): الكذب في الحديث، وهو من أقبح الذنوب التي يرتكبها بنو آدم جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب كذاباً)) رواه البخاري برقم (5629)، ومسلم برقم (4719) واللفظ له.
وليس الكذب على الخلق فقط هو الذي يدخل في الكذب بالحديث، بل يدخل أيضاً الكذب على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يقول الإمام السعدي رحمه الله: "الكذب في الحديث يشمل الحديث عن الله، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من كذب عليه متعمداً فليتبوأ مقعده من النار: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}(الصف:7)، ويشمل الحديث عما يخبر به من الوقائع الكلية والجزئية، فمن كان هذا شأنه فقد شارك المنافقين في أخص صفاتهم" 15 .
فالكذب صفة أساسية في المنافقين يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله وهو يذكر ما جاء في القرآن عن المنافقين: "وقال الله عنهم أيضاً: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} يؤكدون كلامهم بالشهادة، و بـ(إن)، واللام فقال الله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فشهد شهادة أقوى منها بأنهم لكاذبون في قولهم نشهد إنك لرسول الله، لا في أن محمداً رسول الله، ولهذا استدرك فقال: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فالمنافق له علامات يعرفها الذي أعطاه الله فراسة ونوراً في قلبه، يعرف المنافق من تتبع أحواله، وهناك علامات ظاهرة لا تحتاج إلى فراسة منها هذه الثلاث التي بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدَّث كذب) يقول مثلاً: فلان فعل كذا وكذا، فإذا بحثت وجدته كذب، وهذا الشخص لم يفعل شيئاً فإذا رأيت الإنسان يكذب فاعلم أن في قلبه شعبة من النفاق" 16 .
(وإذا وعد أخلف): يخرج من ذلك من وعد فأخلف وهو لم ينو الإخلاف، وعنده عذر قاهر يمنعه من الوفاء بالوعد يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: "إذا وعد أخلف وهو على نوعين: أحدهما: أن يعد ومن نيته أن لا يوفي بوعده، وهذا أشر الخلق، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيته أن لا يفعل كان كذباً وخلفاً قاله الأوزاعي.
الثاني: أن يعد ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له فيخلف من غير عذر له في الخلف" 17 .
ثم قال رحمه الله وهو يبين حكم الوفاء بالوعد: "… وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد؛ فمنهم من أوجبه مطلقاً، وذكر البخاري في صحيحه أن ابن أشوع قضى بالوعد، وهو قول طائفة من أهل الظاهر وغيرهم، ومنهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضى نفعاً للموعود، وهو المحكي عن مالك، وكثير من الفقهاء لا يوجبونه مطلقاً" 18 .
وقد ينسى بعضهم أن الوفاء بالوعد خلق إسلامي رفيع، وليس كما يدعي بعض الناس بأن الغرب هو صاحب الوفاء بالوعد فيقولون: وعد إنجليزي يقول ابن عثيمين رحمه الله: "وأما إخلاف الوعد فحرام، يجب الوفاء بالوعد سواء وعدته مالاً، أو وعدته إعانة تعينه في شيء، أو أي أمر من الأمور، إذا وعدت فيجب عليك أن تفي بالوعد، وفي هذا ينبغي للإنسان أن يحدد المواعيد ويضبطها، فإذا قال لأحد إخوانه: أواعدك في المكان الفلاني؛ فليحدد الساعة الفلانية، حتى إذا تأخر الموعود، وانصرف الواعد يكون له عذر حتى لا يربطه في المكان كثيراً، وقد اشتهر عند بعض السفهاء أنهم يقولون: أنا واعدك ولا أخلفك، وعدي إنجليزي؛ يظنون أن الذين يوفون بالوعد هم الإنجليز، ولكن الوعد الذي يوفى به هو وعد المؤمن، ولهذا ينبغي لك أن تقول إذا وعدت أحداً وأردت أن تؤكد: إنه وعد مؤمن حتى لا يخلفه؛ لأنه لا يخلف الوعد إلا المنافق" 19 .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا عاهد غدر)) قريب من قوله: (إذا وعد أخلف)، فإنه إذا عاهد شخصاً ما غدر به، ولم يوف بعهده الذي عاهده به، ويشمل العهود التي بين العبد وربه، والعهود التي بين الخلق مع بعضهم يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(آل عمران:77)، ويقول جل في علاه عن المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}(المؤمنون:8)، وقال جل في علاه: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(النحل:91)، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(آل عمران:77)، وجاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة)) رواه البخاري رقم (6451)، ومسلم برقم (3217) واللفظ له.
ولا يجوز الغدر بالوعد حتى مع الكفار فقد جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً)) رواه البخاري برقم (6403).
قوله: (إذا ائتمن خان): "خان في أمانته، أي تصرفه فيها على خلاف الشرع، ونقص ما ائتمن عليه، ولم يؤده كما هو" 20 ، وأداء الأمانة مما أمر به الله جل في علاه إذ يقول: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(النساء:58)، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(الأنفال:27)، ويأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى مع الخائن فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) 21 .
وكل ما أمر الله به تعالى عباده يدخل في الأمانة التي يجب أن يؤديها العبد يقول تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(الأحزاب:72) يقول القرطبي رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "لما بيَّن تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بيَّن أمر بالتزام أوامره، والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور" 22 .
قوله: (وإذا خاصم فجر): "ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمداً حتى يصير الحق باطلاً، والباطل حقاً، وهذا مما يدعو إليه الكذب" 23 .
ويجعلها ابن عثيمين رحمه الله على نوعين فيقول: "والفجور في الخصومة على نوعين أحدهما: أن يدَّعي ما ليس له، والثاني: أن ينكر ما يجب عليه.
مثال الأول: ادعى شخص على آخر، فقال عند القاضي: أنا أطلب من هذا الرجل ألف ريال – وهو كاذب -، وحلف على هذه الدعوى، وأتى بشاهد زور، فحكم له القاضي؛ فهذا خاصم ففجر؛ لأنه ادعى ما ليس له، وحلف عليه.
مثال الثاني: أن يكون عند شخص ألف ريال، فيأتيه صاحب الحق فيقول: أوفني حقي؛ فيقول: ليس لك عندي شيء، فإذا اختصما عند القاضي، ولم يكن للمدعى بيِّنة؛ حلف هذا المنكر الكاذب في إنكاره أنه ليس في ذمته له شيء، فيحكم القاضي ببراءته، فهذه خصومه فجور والعياذ بالله" 24 .
وجاء عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) رواه البخاري برقم (2277)، ومسلم برقم (4821)، ويدخل في ذلك كل من كان له قدرة على الخصومة، وخاصم في الباطل؛ سواء كان في أمر الدين، أو أمر الدنيا، وهذا من أقبح المحرمات، وأخبث خصال النفاق؛ فعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال؛ حتى يخرج مما قال)) 25 .
نسأل الله تعالى بمنِّه وكرمه أن يرزقنا أحسن الأخلاق، وأن يجنبنا الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم (1/433-434) لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة – بيروت 1417هـ – 1997م، ط. السابعة.
2 النهاية في غريب الحديث والأثر (5/97)، لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية – بيروت 1399هـ – 1979م.
3 كتاب التوحيد لصالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، ط. الرابعة، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد المملكة العربية السعودية، 1423هـ.
4 جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم (1/430-431).
5 الصلاة وحكم تاركها وسياق صلاة النبي من حين كان يكبر إلى أن يفرغ منها (1/77) لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: بسام عبدالوهاب الجابي، الناشر: الجفان والجابي – دار ابن حزم قبرص – بيروت، ط. الأولى 1416 – 1996.
6 كتاب التوحيد للفوزان.
7 الديباج على مسلم (1/80) لعبد الرحمن بن أبي بكر أبو الفضل السيوطي، تحقيق: أبو إسحاق الحويني الأثري، دار ابن عفان – الخبر – السعودية 1416 – 1996م.
8 رواه مسلم برقم (188) روى: ((ذاك صريح الإيمان))، ورواه أحمد برقم (8791) بلفظ: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إني أحدث نفسي بالحديث لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به، قال: ((ذلك صريح الإيمان))، تعليق شعيب الأرناؤوط: صحيح وهذا إسناد قوي وهو على شرط مسلم، انظر مسند أحمد (2/397) بتعليق شعيب الأرناؤوط.
9 صححه الألباني في تحقيقه كتاب الإيمان لابن تيمية (1/102).
10 الإيمان (2/366-367) لابن تيمية الحراني، دراسة وتحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي – عمان – الأردن، ط. الخامسة 1416هـ/1996م.
11 انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (28/434-435) جمع الشيخ: عبد الرحمن بن قاسم، وساعده ابنه محمد رحمهما الله تعالى، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، ط. الثالثة 1426هـ-2005م.
12 كتاب التوحيد للفوزان.
13 فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/89-90) لابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار المعرفة – بيروت.
14 عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/223-224) لبدر الدين محمود بن أحمد العيني، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
15 بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار لعبد الرحمن بن ناصر السعدي.
16 شرح رياض الصالحين (1/542) المؤلف: محمد بن صالح العثيمين، تحقيق: د. محمد محمد تامر، المكتبة الإسلامية بالقاهرة، ط. الأولى 1423هـ، 2002م.
17 جامع العلوم والحكم (1/431).
18 جامع العلوم والحكم (1/431-432).
19 شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/376-377).
20 فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/63) لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى – مصر 1356هـ، ط. الأولى.
21 الترمذي برقم (1185)، وأبو داود برقم (3068)، وقال الألباني رحمه الله: صحيح، انظر حديث رقم (240) في صحيح الجامع.
22 الجامع لأحكام القرآن (14/253) لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الشعب – القاهرة.
23 جامع العلوم والحكم (1/432).
24 شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/377).
25 أحمد برقم (5129)، وجاء في تحقيق المسند لأرناؤوط وغيره: إسناده صحيح رجاله، انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل (9/283)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى 1421 هـ – 2001م.