حتى لا تغرق السفينة
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، القائل في كتابه الكريم:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}1، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه؛وذلك أضعف الإيمان))2، أما بعد:
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرةٌ عظيمة من شعائر دين الإسلام, وبسببه نالت هذه الأمة الخيرية, وبه تميزت عن سائر الأمم قال الله – تبارك وتعالى -: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}3، وقد وصف الله – تبارك وتعالى – أهل الإيمان في القرآن بأنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}4؛ في حين وصف أهل النفاق بأنهم {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}5, فالآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فيه صفة من صفات المؤمنين, وبذلك فإنه يستحق تمكين الله له ونصره, وتأييده وتسديده قال الله – تبارك وتعالى -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}6.
ويعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد السَّفيه حصنٌ حصين من المحن, ودرعٌ واق من الشُّرور والفتن, وأمانٌ تحفظ به حرمات المسلمين, وتظهر به شعائر الدين, ويعز به أهل الإيمان، ويذل به أهل المعاصي والطغيان؛
لذا كان من الواجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر كلٌ حسب استطاعته وطاقته،وبحسب درجات الإنكار المعروفة التي بيَّنها خير الأنام ﷺ في حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))7، فإذا ما فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تميَّزت السنة من البدعة, وعُرف الحلال من الحرام, وأدرك الناس الواجب والمسنون, والمباح والمكروه, ونشأ الصغار على المعروف وألفوه, وابتعدوا عن المنكر واشمأزَّت منه نفوسهم.
ولأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يخصص الإسلام هذا العمل على أناس معينين كما يظن كثير من الناس؛ بل ألزم كل أحد من الناس بفعله فمن رأى منكراً وجب عليه أن ينكر على فاعله، مع الإشارة إلى أنه لا بد من تحلي الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر؛ بالرفق والحلم، والعلم والحكمة، ليكون لعملهم الأثر المطلوب،وحتى نحافظ على السفينة من الهلاك والغرق, فإنه إذا أُعلن المنكر في مجتمع ولم يجد من يقف في طريقه تقوَّى وكثر، وعند ذلك يحلُّ بالأمة العذاب والهلاك كما جاء في الصحيحين من حديث عن زينب بنت جحش – رضي الله عنهن -: أن النبي ﷺ دخل عليها فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث))8، وقال أبو بكر الصديق بعد أن حمد الله وأثنى عليه: “يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}9 قال: عن خالد: وإنا سمعنا النبيﷺ يقول:((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب))، وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: “ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لايغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب”10، وعن حذيفة أن النبي ﷺ قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهَون عن المنكر؛أو ليوشِكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقاباً منه, ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم ))11, وكيف لا نخشى ذلك وقد لعن الله – تبارك وتعالى – بني إسرائيل على لسان أنبيائه -عليهم السلام – بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}12.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متصلة لأنه هو الجهاد الدائم المفروض على المسلم، وهو أصل مهم من أصول قيام حضارة الإسلام إذ لا قيام لشريعة الإسلام بدونه, ومما يدل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المسلم حديث أبي ذر عن النبي ﷺ أنه قال: ((يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة،وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى))13.
وقال الإمام النووي – رحمه الله تعالى – عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: “واعلم أن هذا الباب – أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جداً، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عمَّ العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله – تعالى – بعقابه، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم، فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لاسيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته، ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته؛ فإن الله – تعالى – قال: {ولينصرن الله من ينصره}، وقال – تعالى -: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، وقال – تعالى -: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، وقال – تعالى -: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}14“.
وعلى الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يبدأ بنفسه فيكون قدوة للآخرين حيث قد عاب الله – تبارك وتعالى – من يقول ولا يفعل: {يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}15, وقيل لأسامة بن زيد : ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه، ولا أقول لأحد يكون علي أميراً إنه خير الناس بعدما سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى،فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه))16.
فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا من الآمرين العاملين بالمعروف والناهين عن المنكر, وأن يجعلنا من العاملين بكتابه وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، الواقفين عند حدوده، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
1 سورة آل عمران (110).
2 رواه مسلم في صحيحه برقم (49).
3 سورة آل عمران (110).
4 سورة التوبة (71).
5 سورة التوبة (67).
6 سورة الحج (40-41).
7 رواه مسلم في صحيحه برقم (49).
8 رواه البخاري في صحيحه برقم (3168)، ورقم (3403)؛ ومسلم برقم (2880).
9 سورة المائدة (105).
10 رواه أبو داود في سننه برقم (4338)؛ والترمذي برقم (2168) وقال: وهذا حديث صحيح؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2317).
11 رواه الترمذي في سننه برقم (2169)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2313): حسن لغيره.
12 سورة المائدة (78-79).
13 رواه مسلم في صحيحه برقم (720).
14 انظر شرح النووي على صحيح مسلم (2/24).
15 سورة الصف (2-3).
16 رواه مسلم في صحيحه برقم (2989).