الغنى غنى النفس

الغنى غنى النفس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فهذه كلمة مختصرة حول معاني كلمات جامعة من جوامع النبي عليه الصلاة والسلام يقول فيها صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس)) رواه البخاري (6081 ) ومسلم (1051) عن أبي هريرة رضي الله عنه، و((العَرَض)): أي متاع الدنيا.

ومعنى الحديث كما يقول ابن حجر رحمه الله: "قال ابن بطال: معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيراً ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي؛ فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه؛ فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي، وقنع به ورضي، ولم يحرص على الازدياد، ولا ألح في الطلب، فكأنه غني!، وقال القرطبي رحمه الله: معنى الحديث أنَّ الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفَّت عن المطامع، فعزَّت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة، والشرف والمدح؛ أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأمور، وخسائس الأفعال؛ لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل.

والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعاً بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب، ولا يحلف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد أبداً، والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أُعطي، بل هو أبداً في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف فكأنه فقير من المال؛ لأنه لم يستغن بما أُعطي، فكأنه ليس بغني، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عند الله خير وأبقى فهو معرض عن الحرص والطلب، وما أحسن قول القائل:

غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة      فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقراً"1

وقال ابن حجر رحمه الله أيضاً: "قال الطيبي: يمكن أن يُراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وإلى ذلك أشار القائل:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر

أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل الكمالات، لا في جمع المال؛ فإنه لا يزداد بذلك إلا فقراً، وهذا وإن كان يمكن أن يراد لكن الذي تقدم أظهر في المراد، وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره، فيتحقق أنه المعطي المانع، فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غيره وبه تعالى، والغنى الوارد في قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}(الضحى:8) يتنزل على غنى النفس، فإن الآية مكية ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال"2.

وقال ابن تيمية رحمه الله: "فغني النفس الذي لا يستشرف إلى المخلوق فإن:

الحر عبد ما طمع       والعبد حر ما قنع

وقد قيل: أطعتُ مطامعي فاستعبدتني، فكُره أن يتبع نفسه ما استشرفت له لئلا يبقى في القلب فقر، وطمع إلى المخلوق، فإنه خلاف التوكل المأمور به، وخلاف غنى النفس"3.

ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع))4 قال النووي رحمه الله عن قوله: ((ومن نفس لا تشبع)): "استعاذة من الحرص والطمع والشَّرَه، وتعلق النفس بالآمال البعيدة"5، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة أبا ذر رضي الله عنه: ((يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟)) قلت: نعم يا رسول الله! قال: ((أفترى قلة المال هو الفقر؟)) قلت: نعم يا رسول الله! قال: ((إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب))6، وفي رواية: ((يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هو الغنى؟ إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها))7

النفس تجزع أن تكون فقيـــرة      والفقر خيــرٌ من غنى يطغيها

وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت       فجميع ما في الأرض لا يكفيه8

وهذه حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد، وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غده، فالعلة في القلوب: رضىً وجزعاً، واتساعاً وضيقاً، وليست في الفقر والغنى.

ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطيباً في الناس على المنبر يقول: "إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه"9، وسُئل أبو حازم فقيل له: "ما مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس"10، وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: "قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك"11.

ولذلك فإنك تجد بعض الناس عنده أموال طائلة، وأثاث وأمتعة، وشركات ومؤسسات؛ ولكن قلبه فقير لا يشبع ولا يقنع فهو دائماً متعلق بالدنيا، متعب، قلق، لا يطمئن في نومه، ولا أكله، ولا شربه، ولا جلوسه مع أهله؛ لأن قلبه فقير، وإن كان عنده أموال كثيرة!!.

وفي المقابل تجد بعض الناس عنده الكفاف لكن قلبه مستريح، مطمئن لما جعل الله في قلبه من القناعة والراحة والطمأنينة، فهو مرتاح في بيته، ومع أهله وأولاده، وأقاربه وأرحامه الذين يصلهم.

نسأل الله أن يرزقنا القناعة بما أعطانا، وألا يحوجنا لأحد من خلقه، آمين اللهم آمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 فتح الباري (11/272) أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار المعرفة – بيروت.

2 فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/272) لابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار المعرفة – بيروت.

3 مجموع الفتاوى (18/329) لابن تيمية الحراني، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، ط. الثالثة (1426 هـ – 2005م).

4 ‌رواه الترمذي برقم (3482) وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع برقم (1297).‌

5 صحيح مسلم بشرح النووي (17/41) للنووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت (1392) ط. الثانية.

6 رواه الحاكم في المستدرك برقم (7929)، وابن حبان في صحيحه برقم (685)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (820).

 7رواه الطبراني في الكبير برقم (1643)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع برقم (7816).

8 جواهر الأدب (الجزء الثاني) أحمد الهاشمي.

9 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/50) لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي – بيروت (1405) ط. الرابعة.

10 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/232).

11 إحياء علوم الدين (4/200) لأبي حامد الغزالي، دار المعرفة – بيروت.