قل آمنت بالله ثم استقم

قل آمنت بالله ثم استقم

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الكرام، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فمن المعلوم أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أوتي جوامع الكلم, حيث يأتي بعبارة بسيطة تدل على معنى عظيم جداً، والمتأمل في السنة يجد ذلك كثيراً ومتكرراً، وورد في السنة قوله – صلى الله عليه وسلم – بذلك عن نفسه فعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((بُعِثتُ بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي))1، ورواه الإمام مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بلفظ: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((فضلت على الأنبياء بست: أعطِيتُ جوامع الكلم، ونُصرتُ بالرعب، وأحلَّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون))2.

وفيما يتعلق بدرسنا اليوم فإنه مما قاله – عليه الصلاة والسلام – من جوامع الكلم، وهو الحديث العظيم الذي رواه الإمام أحمد وغيره عن سفيان بن عبد الله الثقفي – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك (قال أبو معاوية: بعدك)؟ قال: ((قل آمنت بالله ثم استقم))3, وروي عنه – رضي الله عنه – بلفظ: قال يا رسول الله أخبرني أمراً في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ قال: ((قل آمنت بالله، ثم استقم)) قال: يا رسول الله فأي شيء أتقي؟ قال: فأشار بيده إلى لسانه))4.

وهذا الحديث على صغر حجمه إلا أن نفعه وأثره عظيمان، حيث يضع للمسلمين منهجاً متكاملاً، وصراطاً واضحاً، وتتضح أهمية هذا المنهج ببيان قاعدته التي يرتكز عليها وهي الإيمان بالله: ((قل آمنت بالله))، فهذا هو الشيء الذي يغيِّر من سلوك الشخص وأهدافه وتطلعاته، وبه يحيا القلب حياة طيبة يتقبل بها أحكام الله – تبارك وتعالى – وتشريعاته، ويقذف الله في روحه من أنوار هدايته، فيعيش آمناً مطمئناً، ناعماً بالراحة والسعادة قال الله – تبارك وتعالى – مبيِّناً حال المؤمن: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}5 فبعد أن كان خاوي الروح، ميّت القلب، دنيوي النظرة، إذا بالنور الإيماني يملأ جنبات روحه فيشرق منها القلب، وتسمو بها الروح، ويعرف بها المرء حقيقة الإيمان ومذاقه، فإذا ما ذاق الإنسان حلاوة الإيمان، وتمكنت جذوره في قلبه؛ استطاع  أن يثبت على الحق، ويواصل المسير، حتى يلقى ربّه وهو عنه راض، ثم إن ذلك الإيمان يثمر له العمل الصالح فلا إيمان بلا عمل، كما أنه لا ثمرة بلا شجر، ولهذا جاء في الحديث: ((ثم استقم))، فرتّب النبي – عليه الصلاة والسلام – الاستقامة على الإيمان، وهي ثمرة ضرورية للإيمان الصادق قال ابن دقيق العيد – رحمه الله -: "هذا من جوامع الكلم التي أوتيها – صلى الله عليه وسلم -، فإنه جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين معاني الإسلام والإيمان كلها، فإنه أمره أن يجدد إيمانه بلسانه متذكراً بقلبه، وأمره أن يستقيم على أعمال الطاعات والانتهاء عن جميع المخالفات، إذ لا تأتي الاستقامة مع شئ من الاعوجاج فإنها ضده، وهذا كقوله – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}6 الآية: أي آمنوا بالله وحده، ثم استقاموا على ذلك، وعلى الطاعة إلى أن توفاهم الله عليها قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: استقاموا والله على طاعته، ولم يروغوا روغان الثعلب، ومعناه: اعتدلوا على أكثر طاعة الله عقداً وقولاً وفعلاً، وداموا على ذلك، وهذا معنى قوله عند أكثر المفسرين، وهي معنى الحديث – إن شاء الله تعالى -، وكذلك قوله – سبحانه -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}7 قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: ما نزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جميع القرآن آية كانت أشق عليه من هذه الآية، لذلك قال – صلى الله عليه وسلم -: ((شيبتني هود وأخواتها))8 قال الأستاذ أبو القاسم القشيرى – رحمه الله تعالى -: الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيماً في حال سعيه ضاع سعيه، وخاب جده، قال: وقيل الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر، لأنها الخروج عن المعهودات، ومفارقة العادات، والقيام بين يدي الله – تعالى – على حقيقة الصدق، ولذلك قال النبى – صلى الله عليه وسلم -: ((استقيموا ولن تحصوا))9، وقال الواسطي: الخصلة التي بها كملت المحاسن، وبفقدها قبحت المحاسن: الإستقامة والله أعلم"10.

إن حقيقة الاستقامة: أن يحافظ العبد على الفطرة التي فطره الله عليها، فلا يحجب نورها بالمعاصي والشهوات، مستمسكاً بحبل الله كما قال ابن رجب – رحمه الله -: "والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها: الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها"11، وهو بذلك يشير إلى قوله – تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}12، وأمَرَ الله – تعالى – بالاستقامة في مواضع عدة من كتابه منها: قول الله – تبارك وتعالى – آمراً نبيه – صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}13, وقال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}14، وقول الله – تبارك وتعالى -: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}15, وقال رب العزة والجلال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ}16.

ولأهمية الاستقامة وعظم فضلها فقد شرع الله – تبارك وتعالى – لنا أن ندعوه ونسأله إياها في كل ركعة من الصلاة قال الله – تبارك وتعالى -: {إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}17, وبيّن سبحانه هدايته لعباده المؤمنين إلى طريق الاستقامة كما قال الله – تبارك وتعالى -: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}18، وجعل القرآن الكريم كتاب هداية للناس يقول الله – تعالى – في ذلك: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}19إلى غير ذلك من الآيات.

ولئن كانت الاستقامة تستدعي من العبد اجتهاداً في الطاعة؛ فإن ذلك لا يعني أنه لا يقع منه تقصير أو خلل أو زلل، بل لا بد أن يحصل له بعض ذلك بدليل أن الله – تعالى – قد جمع بين الأمر بالاستقامة وبين الاستغفار في قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ}20، فأشار إلى أنه قد يحصل التقصير في الاستقامة المأمور بها، وذلك يستدعي من العبد أن يجبر نقصه وخلله بالتوبة إلى الله – تبارك وتعالى -، والاستغفار من هذا التقصير وهذا كقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((استقيموا ولن تحصوا)) رواه أحمد، وعن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قلَّ))21 أي: افعلوا السداد وهو الاعتدال في القول والعمل، واختيار الصواب منهما، (قاربوا) تقربوا من الغاية ولا تفرطوا قال ابن رجب رحمه الله -: "فالسداد هو حقيقة الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد"22.

والمقصود من الحديث هو المحاولة الجادة للسير في هذا الطريق، والعمل وفق ذلك المنهج على قدر الاستطاعة، وإن لم يصل إلى غايته، شأنه في ذلك شأن من يسدد سهامه إلى هدف قد يصيبه، وقد يخطئ رميته، لكنه بذل وسعه في محاولة تحقيق ما يريد.

ثمار الاستقامة:

ولا شك أن للاستقامة ثمار عديدة لا تنقطع، فهي باب من أبواب الخير، وبركتها لا تقتصر على صاحبها فحسب بل تشمل كل من حوله نذكر بعضاً منها:

1- نزول الملائكة بالبشرى عند الموت بأن لا يخاف ولا يحزن، وتبشره كذلك بالجنة قال الله – تبارك وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}23, وقال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}24.

2- ومن ثمار الاستقامة: نزول الغيث من السماء، فينتفع الناس به، وفي ذلك يقول الله – تبارك وتعالى -: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً}25.

فإذا أردنا أن تتحقق الاستقامة في البدن فلابد من استقامة القلب أولا، لأن القلب هو ملك الأعضاء، فمتى استقام القلب على معاني الخوف من الله – تبارك وتعالى -، ومحبته وتعظيمه؛ استقامت الجوارح على ذلك.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا حُسن الاستقامة في جميع أمورنا إنه على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الأطهار، وصحابته الكرام، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه البخاري برقم (2815) و(6611)؛ ومسلم برقم (523).

2 رواه مسلم برقم (523).

3 رواه أحمد في المسند برقم (15454)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

4 رواه أحمد في المسند برقم (15455)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح غير عبد الله بن سفيان فقد أخرج له النسائي وهو ثقة؛ رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11489)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (7845)، وفي صحيح الجامع برقم (4395).

5 سورة الأنعام (122).

6 سورة فصلت (30).

7 سورة هود (112).

8 رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (5804)؛ وعبد الرزاق في المصنف برقم (5997)؛ وصححه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية برقم (35)؛ وفي السلسلة الصحيحة برقم (955).

9 رواه مالك في الموطأ برقم (66)؛ وابن ماجة في سننه برقم (277-278)؛ وأحمد في المسند برقم (22432)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الصحيح؛ كلهم من حديث ثوبان – رضي الله عنه -، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (224-225)؛ وقال في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره برقم (197)، و(379).

10 شرح الأربعين نووية (57).

11 جامع العلوم والحكم (205).

12 سورة الروم(30).

13 سورة هود (112).

14 سورة الشورى (15).

15 سورة التوبة (7).

16 سورة فصلت (6).

17 سورة الفاتحة (6-7).

18 سورة الحج (54).

19 سورة إبراهيم (1).

20 سورة فصلت (6).

21 رواه البخاري برقم (6099) و(6102)؛ ومسلم في صحيحه برقم (2818) وغيرهما.

22 جامع العلوم والحكم (205).

23 سورة فصلت (30).

24 سورة الأحقاف (13).

25 سورة الجن (16).