ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا

ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

من تيسير الشريعة المطهرة على العباد أن جعلت الصلاة جماعة تحصيلاً للأجور، ونيلاً لجزيل الثواب؛ فجُعِلَ فضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بضع وعشرون درجة1، وحُقَّ لكل حريص أن يسابق إلى ذلك.

وقد وقع على عهد النبي  أن أسرع بعض الصحابة  لإدراك الصلاة، وسمع رسول الله  منهم صوت الحركة والسرعة؛ فكان فعلهم ذلك سبباً لذكر حكم شرعي لهم، وللأمة من بعدهم؛ فجزاهم الله عنا خيراً جاء ذلك عن أبي قتادة  قال: “بينما نحن نصلي مع النبي  إذ سمع جَلَبةَ2 رجالٍ، فلما صلى قال: ما شأنكم؟، قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا رواه البخاري (609)، ومسلم (603)، وعن أبي هريرة  عن النبي  قال: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا رواه البخاري (610) ومسلم (602)، وزاد مسلم فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة والحديث فيه الندب الأكيد إلى إتيان الصلاة بسكينة ووقار، والنهي عن إتيانها سعياً سواء فيه صلاة الجمعة وغيرها، وسواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا.

قال العلماء: “والحكمة في إتيانها بسكينة، والنهي عن السعي: أن الذاهبَ إلى صلاةٍ عامدٌ في تحصيلها، ومتوصلٌ إليها؛ فينبغي أن يكون متأدباً بآدابها، وعلى أكمل الأحوال، وهذا معنى الرواية الثانية: فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة، وإنما ذكر الإقامة في قوله  : إذا أقيمت الصلاة للتنبيه بها على ما سواها؛ لأنه إذا نهى عن إتيانها سعياً في حال الإقامة مع خوفه فوتَ بعضها، فقبل الإقامة أولى، وأكد ذلك ببيان العلة فقال  : فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة وهذا يتناول جميع أوقات الإتيان إلى الصلاة، وأكد ذلك تأكيداً آخر فقال: فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا فحصل فيه تنبيهٌ وتأكيدٌ؛ لئلا يتوهم متوهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة، فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات، وبيَّن ما يفعل فيما فات”3.

واستدل بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا، ولم يفصل بين القليل والكثير، وهذا قول الجمهور4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وإن قصد الرجل الجماعة، ووجدهم قد صلوا؛ كان له أجر من صلى في الجماعة كما وردت به السنة عن النبي  ، وإذا أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك الجماعة، وإن أدرك أقل من ركعة فله بنيته أجر الجماعة، ولكن هل يكون مدركاً للجماعة أو يكون بمنزلة من صلى وحده؟

فيه قولان للعلماء:

أحدهما: أنه يكون كمن صلى في جماعة5.

  والثاني: يكون كمن صلى منفرد6.

والثاني أصح لما ثبت في الصحيح عن النبي  أنه قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة رواه البخاري (555) ومسلم برقم (607)، ولهذا قال الشافعي وأحمد ومالك وجمهور العلماء: إنه لا يكون مدركاً للجمعة إلا بإدراك ركعة من الصلاة، لكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون: إنه يكون مدركاً لها إذا أدركهم في التشهد، ومن فوائد النزاع في ذلك: أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة إذا أدرك ركعة، فإن أدرك أقل من ركعة فعلى القولين المتقدمين، والصحيح أنه لا يكون مدركاً للجمعة، ولا للجماعة؛ إلا بإدراك ركعة، وما دون ذلك لا يعتد له به، وإنما يفعله متابعةً للإمام، ولو بعد السلام كالمنفرد باتفاق الأئمة”7.

وعدم الإسراع أيضاً يستلزم كثرة الخطا، وهو معنى مقصود لذاته، وردت فيه أحاديث كحديث جابر  عند مسلم أن بكل خطوة درجة8، وسئل شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – عمن أدرك ركعة من صلاة الجمعة ثم قام ليقضي ما عليه فهل يجهر بالقراءة أم لا؟ فأجاب: “بل يخافت بالقراءة ولا يجهر؛ لأن المسبوق إذا قام يقضي فإنه منفرد فيما يقضيه، حكمه حكم المنفرد، وهو فيما يدركه في حكم المؤتم، ولهذا يسجد المسبوق إذا سها فيما يقضيه، وإذا كان كذلك فالمسبوق إنما يجهر فيما يجهر فيه المنفرد، فمن كان من العلماء مذهبه أن يجهر المنفرد في العشاءين، والفجر؛ فإنه يجهر إذا قضى الركعتين الأوليين، ومن كان مذهبه أن المنفرد لا يجهر فإنه لا يجهر المسبوق عنده، والجمعة لا يصليها أحد منفرداً فلا يتصور أن يجهر فيها المنفرد، والمسبوق كالمنفرد فلا يجهر، لكنه مدرك للجمعة ضمناً وتبعاً، ولا يشترط في التابع ما يشترط في المتبوع، ولهذا لا يشترط لما يقضيه المسبوق العدد ونحو ذلك.

لكن مضت السنة أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، فهو مدرك للجمعة كمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فإنه مدرك، وإن كانت بقية الصلاة فعلت خارج الوقت. والله أعلم”9.

وعلى كلٍّ فالعجلة الحاصلة من المسبوقين، والمتأخرين؛ أمرٌ كثيراً ما يغفل عنه الناس، ويتسارعون إلى الوقوف في الصف، وإدراك الجماعة، وهذا أمر كما تبين يحتاج إلى تعقل، وأن يعرف العبد أنه في صلاة ما دام ماشياً إليها.

والعجيب سرعة البعض والإمام ساجد أو في التشهد الأول .. سبحان الله، لو أسرع لإدراك الإمام راكعاً ليدرك ركعته، أو في تشهده الأخير ليدرك فضل الجماعة – مع الكلام في عجلته هذه، ومنافاتها لهدي النبي – كان أقرب إلى العقل، ولكن القول ما قالت به الشريعة فليُتَنبهْ.

ولعمري إن الاستعداد للصلاة حين دنو الوقت، أو حتى حين سماع الأذان؛ أولى وأجدر أن نسارع إليه، ونتعجل في أمرنا للتجهز بالوضوء والسير إلى المساجد، وإدراك النوافل القبلية ليكون عوناً على ترك ما نهى عنه النبي صلى الله وسلم عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

والله أعلم.


1 أصله حديث رواه ابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.

2 الجلبة: اختلاط الأصوات وارتفاعها، وذلك بسبب سرعتهم لإدراك الصلاة.

3 شرح النووي على مسلم (5/99).

4 فتح الباري لابن حجر (2/449).

5 وهذا رأي أبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله جميعاً.

6 وهذا رأي مالك وهو اختيار شيخ الإسلام كما سيأتي بعده.

7 مجموع الفتاوى (23/242-243) بتصرف.

8 فتح الباري لابن حجر (2/449)، والحديث في مسلم برقم (664) عن جابر بن عبد الله  قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا؛ فنقترب من المسجد، فنهانا رسول الله  فقال: إن لكم بكل خطوة درجة.

9 مجموع الفتاوى (24/207).