أوقاف المساجد
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن المساجد والمصليات هي إحدى أهم الشعائر المكانية في الإسلام، حيث يتخذها المصلون مهبطاً لقلوبهم، ومرتعاً لنفوسهم، يهطل عليهم فيها غيث السماء المدرار بأسباب الرحمة والسعادة الروحية، ويحمل كل مسلم شعوراً بهذا المسجد أيًّا كان على أنه أجل من داره وبيته، ويعتقد أن المساجد مرتهنة في أعناق المسلمين جميعاً، وعليهم رعايتها ونظافتها، وبناؤها والقيام بشؤونها.
وقد كان باعث هذا الشرع المطهر؛ الذي حثَّ على ذلك، وحببَّ إلى العباد احتساب الأجر هنالك ففي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة رواه البخاري (450) ومسلم (533)، وإيمان المسلمين بربهم، وتصديقهم لنبيهم؛ لا يجعلهم يسمعون بهذا الحديث إلا كان المقتدرون هم المبادرين، ونفوس المعوزين تتشوف إلى هذا الثواب، ويصير المسلمون من قبل أن يبنى المسجد إلى أن يشاء الله كالأب الحنون، فهذا يتحمل تكلفة الأرض، وذاك عليه الأحجار، وآخر عليه أدوات البناء، وذاك يفرشه، والكثير يتعهدونه بالنظافة والتطييب؛ حباً وكرامة.
والكثير من المسلمين في سبيل هذه الأجور يُسبِّلون ويحبسون أموالًا لصالح بيوت الله، فمن واقف أرضٍ، إلى واقف مالٍ، إلى واقف منافع … إلخ، وهذا كله داخل في مسمى “الوقف”.
تعريفه وحكمه:
الوقف تبرع بالمال، وحبس له عن التصرف فيه، فإذا كان على جهة مشروعة كان مستحباً؛ لأنه من الصدقة، وإذا نذره الإنسان كان واجباً بالنذر، وإذا كان فيه حيف أو وقف على شيء محرم كان حراماً، وإذا كان فيه تضييق على الورثة كان مكروهاً، فيمكن أن تجري فيه الأحكام الخمسة هذا من حيث الحكم التكليفي1، وهو أدوم الصدقات؛ لأن الأصل فيه البقاء، وهو تحبيس الأصل وبقاؤه مع تسبيل الثمرة، والانتفاع بالغلّة، وما زال الفقهاء يُوصون نُظَّار الأوقاف بالمحافظة على ما وُلّوا حتى يدوم ويثبت ويستمر ولا ينقطع2، فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النبي ﷺ يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول. رواه البخاري (2586)، ومسلم (1633).
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علم يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له رواه مسلم (1631)، فالصدقة الجارية هي الوقف .. وفيه دليل لصحة أصل الوقف3.
وأغلب المساجد على مدى التاريخ قامت على الأوقاف، بل كل ما يحتاجه المسجد من فرش وتنظيف، ورزق القائمين عليه؛ كان مدعوماً بهذه الأوقاف4.
واليوم تعددت الأشياء التي توقف على المسجد كالفرش، والميكرفونات، والأدوات الكهربائية، والأجهزة الصوتية، والأبواب والشبابيك، وثلاجات الماء، وأدوات البناء والسباكة، والمكتبة الداخلية … إلخ.
شروط صحة الوقف:
إذا كان الواقف أهلاً للتصرف، بالغاً، مالكاً للموقوف؛ صح الوقف بتحقق هذه الشروط:
1. أن يكون الموقوف مما يمكن الانتفاع به انتفاعاً مستمراً مع بقاء عينه: فالذي يجوز وقفه هو ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به؛ مع بقاء عينه، وكان أصلاً يبقى بقاء متصلاً كالعقار، والحيوانات، والسلاح، والأثاث، وأشباه ذلك؛ قال الإمام أحمد – رحمه الله –: إنما الوقف في الدور، والأرضين على ما وقف أصحاب رسول الله ﷺ، وقال فيمن وقف خمس نخلات على مسجد لا بأس به5، “واستثنوا من هذا الماء، فقالوا: إن وقفه يصح؛ لأنه ورد عن السلف فعن عثمان قال: “… هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن، فابتعتها، فجعلتها للغني، والفقير، وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم…”6، فيجوز أن يوقِف هذه القربة على العِطَاش من المسلمين لوروده عن السلف؛ وهذا يدل على جواز مثله إذ لا وجه لاستثنائه.
والصواب أنه يجوز وقف الشيء الذي لا ينتفع به إلا بتلفه، فإذا قال: هذا الجراب من التمر وقف على الفقراء، قلنا: جزاك الله خيراً، وقبل منك، وهو بمنزلة الصدقة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، وهو الصواب”7.
2. “إذا كان على جهة فلا بد أن يكون على برٍّ، وإذا كان على معين فلا يشترط أن يكون على بر؛ لأنه قد يقصد منفعة هذا المعين بعينه لا التقرب إلى الله ، لكن يشترط ألا يكون فيه إثم، فإذا كان على إثم فلا يصح”8 “كالوقف على معابد الكفار، وكتب البدع والضلال والزندقة، والوقف على الأضرحة لتنويرها وتبخيرها، أو على سدانتها؛ لأن ذلك إعانة على المعصية، والشرك، والكفر”9 “وإن كان الوقف على مسجد معيَّن تعين فيه، ولا يجوز صرفه إلى غيره، وإن كان على المساجد عموماً وجب على الناظر أن يبدأ بالأحق فالأحق سواء كانت هذه الأحقية عائدة إلى ذات المسجد، أو إلى المصلين فيه”10.
3. أن يكون الوقف منجزاً غير مؤقت، ولا معلق؛ إلا إن علقه على موته”11، والعلماء قد اتفقوا على جواز إيقاف أرض لبناء مسجد، أو لعمل مقبرة، وأنه إن لم يرجع موقفها فيها حتى دفن فيها بأمره، وبني المسجد، وصلي فيه بأمره؛ فلا رجوع له فيها بعد ذلك أبد12؛ لأن الوقف عقد لازم لا يمكن تغييره، ولا يجوز فسخه؛ لأنه مما أخرج لله – تعالى –؛ فلا يجوز أن يرجع فيه13، ولو كان الوقف على ما لا يُملك كالوقف على المساجد فهذا النظر فيه للحاكم ما لم يعين الواقف ناظراً خاص14.
تعطل الوقف:
فإن خرب الوقف، أو تعطل؛ أو لم تعد المنفعة باقية فيه؛ فيجوز إبدالها بما يوافق المصلحة التي أنشئ الوقف لأجلها .. “المساجد بمثلها، أو خير منها؛ للحاجة، أو المصلحة … والإبدال يكون تارة بأن يعوض فيها بالبدل، وتارة بأن يباع ويشترى بثمنها المبدل”15، “فلو كان الذي تعطلت منافعه مسجداً كأن يكون المسجد في حي ارتحل أهله عنه؛ فإنه يباع، ويصرف ثمنه في مثله، وإذا بعنا المسجد، وصرفنا ثمنه في مسجد آخر؛ فيجوز لمشتري المسجد أن يبيعه؛ لأنه صار ملكه، ويجوز أن يجعله دكاكين للبيع والشراء، والمهم أنه زال عنه وصف المسجد؛ فيجوز بيعه، والصدقة به، وهبته وغير ذلك، ويصرف ثمنه في مثله … والصواب فيما فضل عن حاجة المسجد أنه يجب أن يصرف في مسجد آخر ما لم يتعذر، أو ما لم يكن الناس في مجاعة؛ فهم أولى؛ لأن حرمة الآدمي أشد من حرمة المسجد ولا شك.
وحتى لو فرض أن المسجد مسجدٌ جامعٌ فيجب أن يصرف في مسجد جامع إن تيسر، وإلا ففي مسجد بقية الصلوات، وإنما قلنا: مسجد جامع؛ لأن المسجد الجامع أكثر أجراً وثواباً؛ حيث إنه تصلى فيه الجمعة، وبقية المساجد لا تصلى فيها الجمعة، ثم إنه في صلاة الجمعة يكون أكثر عدداً من المساجد الأخرى16.
وما أجمل قول الناظم لمسائل الوقف:
هو احتباسُ الأصلِ والتسبيلُ | لنفعه ويحرم التبديلُ |
بالبيع والإرث ولا يوهب بلْ | يصرف في مرضاة مولانا الأجلْ |
فإن يكن مصرفه منصوصـاً | خُصَّ به أو لا فلا خصوصاً |
بل يتحرى العبدُ ما يحبهُ | في صرفه ويرتضيه ربُّهُ |
كالفقرا وفي الرقاب وذوي | قرباه والضيف ونحوه روي |
وجاز أن يأكل منه من ولي | إن شاء بالعرف بلا تمولِ |
ويدخل الواقف أو من ولدا | إن شاء في الوقف لنص وردا |
وإن يكن مصرفُه تعطَّلا | فجائز لغيره أن ينقلا |
كمسجد يصرف للسقـاية | وليس بالتبديل ذا في الآية |
ويحرم الوقف على القبـور | كفعل أهل هذه العصورِ |
إذ تخذوا الموتى ولائجًا لهـم | وصرفوا جل العبادات لهمْ |
في السر قد نادوهمُ والجهرِ | ونبذوا الدين وراء الظهرِ |
يا رب ثبتنا هداه أبداً | ولا تزغ قلوبنا بعد الهدى17 |
والله تعالى أعلم.
1 الشرح الممتع على زاد المستقنع (11 /7) لابن عثيمين – طبعة دار ابن الجوزي – الطبعة الأولى 1422- 1428.
2 المقاصد الشرعية والأبعاد المصلحية لنظام الوقف في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية د. عبد الرحمن بن جميل قصاص (4).
3 شرح النووي على مسلم (11 /85) للنووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية 1392هـ.
4 أحكام الوقف والوصية (5) للسدلان – دار بلنسية.
5 المغني (6 /262) لابن قدامة طبعة دار الفكر – بيروت – الطبعة الأولى 1405هـ.
6 رواه الترمذي (3699) وصححه الألباني، وأصله في البخاري.
7 الشرح الممتع على زاد المستقنع (11 /17).
8 الشرح الممتع على زاد المستقنع (11 /24).
9 ندوة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية (11 /22)، بحث بعنوان الوقف مشروعيته وأهميته الحضارية، د. أحمد الدريويش.
10 الشرح الممتع على زاد المستقنع (11 /20).
11 ندوة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية (11 /22).
12 مراتب الإجماع (1 /97) لابن حزم – دار الكتب العلمية – بيروت.
13 الشرح الممتع على زاد المستقنع (11 /57).
14 الشرح الممتع على زاد المستقنع (11 /42).
15 مجموع الفتاوى (31 /212) لابن تيمية. تحقيق: أنور الباز، عامر الجزار – الناشر: دار الوفاء – الطبعة الثالثة 1426هـ/2005م.
16 الشرح الممتع على زاد المستقنع (11 /61-63).
17 منظومة السبل السوية لفقه السنن المروية (1 /49) للحافظ الحكمي.