قصص في خُلق الحلم

قصص في خُلق الحلم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن "الحلم" خلق من أخلاق الفضلاء، ومزية من المزايا التي يتصف بها العقلاء، وعادة غالب من كانت فيه كان يعُدَّ من الزعماء، وهي صفة يحبها الله – تعالى – في عبده، ولذلك قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة))1.

وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يأسر بحلمه القلوب، ويرغم أنوف أناسٍ تعمدوا الإغلاظ له حتى يصيروا طوع أمره ينزلون عند دعوته، وحفلت سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه من بعده، والتابعين لهم – رضوان الله عليهم أجمعين -؛ بالحلم، ومجانبة الغلظة والشدة والغضب، ونورد هنا بعض المواقف التي نستفيد منها، ونتربى عليها، ونقتدي بها في هذا الجانب، فمن ذلك:

– ما جاء عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: ((كنت أمشي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء))2.

– وعن أنس – رضي الله عنه – قال: ((كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟، ولا لشيء تركتُ: هلا فعلتَ كذا وكذا؟))3.

– وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: ((غزونا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غزوة نجد فلما أدركته القائلة وهو في واد كثير العضاه، فنزل تحت شجرة واستظل بها، وعلق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجئنا، فإذا أعرابي قاعد بين يديه فقال: إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي فاستيقظت وهو قائم على رأسي، مخترط صلتاً، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فشامه، ثم قعد فهو هذا، قال: ولم يعاقبه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -))4.

وهذه القصة العجيبة من سيرة معاوية – رضي الله عنه – أن رجلاً من قريش قال: ما أظن معاوية أغضبه شيء قط، فقال بعضهم: إذا ذكرت أمه غضب، فقال مالك بن أسماء المنى القرشي: أنا أغضبه إن جعلتم لي جعلاً، ففعلوا، فأتاه في الموسم فقال له: يا أمير المؤمنين إن عينيك لتشبهان عيني أمك، قال معاوية: نعم كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان، ثم دعا مولاه شقران فقال له: أعدد لأسماء المنى دية ابنها؛ فإني قد قتلته وهو لا يدري، فرجع مالك بن أسماء المنى وأخذ الجعل، فقيل له: إن أتيت عمر بن الزبير فقلت له مثل ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا، فأتاه فقال له ذلك، فأمر بضربه حتى مات، فبلغ ذلك معاوية، فقال: أنا والله قتلته، وبعث إلى أمه بديته، وأنشأ يقول:

ألا قل لأسماء المنى أم مالك فإني لعمر الله أهلكت مالك5

وقال معاوية: "يا بني أمية قارعوا قريشاً بالحلم، فو الله إن كنت لألقى الرجل من الجاهلية يوسعني شتماً، وأوسعه حلماً؛ فأرجع وهو لي صديق، أستنجده فينجدني، وأثيره فيثور معي، وما دفع الحلم عن شريف ولا زاده إلا كرماً"6.

وممن ضُرب بهم المثل في حلمهم وصفحهم الأحنف بن قيس، ومن ذلك ما روي أنه كان في الجامع بالبصرة، فإذا رجل قد لطمه، فأمسك الأحنف يده على عينيه، وقال: ما شأنك؟ فقال: اجتعلت جُعْلاً على أن ألطم سيد بني تميم فقال: لست سيدهم إنما سيدهم جارية بن قدامة، وكان جارية في المسجد، فذهب الرجل فلطمه، قال: فأخرج جارية من خفه سكيناً فقطع يده وناوله، فقال له الرجل: ما أنت قطعت يدي إنما قطعها الأحنف بن قيس"7.

– قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: "حلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه".

وقال الحكيم العربي:

والحـلم أعظم ناصر تدعونه                 فالزمه يكفك قلَّة الأنصار

– وخرج زين العابدين بن علي بن الحسين – رضي الله عنهم – إلى المسجد فسبه رجلٌ في الطريق، فقصده غلمان زين العابدين ليضربوه ويؤدبوه فنهاهم، وقال لهم: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول، وما لا تعرفه عني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره – يعني ذكر معايبي – ذكرته لك، فخجل الرجل واستحيا، فخلع زين العابدين قميصه له، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا ولد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –8.

– ودخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم، فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرس فقال عمر: مه، إنما سألني: أمجنون؟ فقلت: لا، وقال رجل لوهب بن منبه: إن فلاناً شتمك، فقال: ما وجد الشيطان بريداً غيرك9.

وهذا الإمام الشافعي – رحمه الله – يتمثل حال الحلماء فيقول:

إذا سبني نذل تزايدت رفعـة       وما العيب إلا أن أكون مساببه

ولو لم تكن نفسي علي عزيزة       لمكنتها من كل نذل تحـاربه

– قال ابن الأثير في تاريخه وهو يتحدث عن صلاح الدين الأيوبي: "وكان رحمه الله كريماً، حليماً، حسن الأخلاق، متواضعاً، صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه، وبلغني أنه كان يوماً جالساً وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموز – أي بحذاء – فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها"10.

وخلاصة القول أيها الأخوة: أن الحلم يحتاج إليه عميد الأسرة في منزله، والتاجر في محل تجارته، والعالم في مجلس دراسته، والمعلم داخل فصله مع طلابه، والقاضي في مقطع أحكامه، والرئيس الأعلى في سياسة رعيته، بل يحتاج إليه كل إنسان ما دام الإنسان مدنيَّاً بالطبع، ولا يمكنه أن يعتزل الناس جملة، ويعيش في وحدة مطلقة، ولئن كانت الحاجة إلى الحلم ماسّة في كل وقت فإنها في هذا الزمان أشدُّ مسيساً؛ نظراً لتغير طباع الناس بتغير أحوالهم ومعيشتهم، فبالحلم تسلم وتغنم، وتكفي نفسك شر من أساء إليك.

هذا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


 


1 رواه مسلم برقم (17).

2 رواه البخاري برقم (2980).

3 سنن أبى داود برقم (4775)، وقال الشيخ الألباني: حسن.

4 رواه البخاري برقم (3908)، ومسلم برقم (843).

5 المحاسن والمساوئ لإبراهيم البيهقي (1/221).

6 كتاب الحلم لعبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان أبو بكر (1/37).

7 تهذيب الكمال للمزي (4/482).

8 التبر المسبوك في نصيحة الملوك لأبي حامد الغزالي (1/7).

9 مختصر منهاج القاصدين (3/45).

10 الكامل في التاريخ لابن الأثير (5/214).